يسألونك عن “بغرير أمزازي”

محمد الشمسي
لم أغف ليلة أمس إلا في الثلث الأخير من الليل فرأيت فيما يرى النائم ، معلمة تدخل القسم وتأمر التلاميذ بفتح مقررهم الدراسي على صفحة ودرس ” البغرير” ، وخاطبتهم : ” كنت قد طلبت منكم البحث والتحضير لدرس اليوم ، و سألت الصغار بلطف : ما هذا الذي ترونه في صورة مقرركم ؟ ، فعم صمت رهيب أرجاء القسم ، والصغار ينظرون إلى بعضهم البعض متسائلين في دواخلهم ببراءة : كيف تسأل المعلمة عن شيء إسمه مكتوب تحته ؟ ، فرفع تلميذ أصبعه الصغير وأذنت له المعلمة بالجواب فقال بخجل : هذه منشفة بيضاء ، حينها قهقه زملاؤه لجوابه فاحمرت وجنتاه وتوردتا فخرس الصغير وبلع ريقه ، لكن المعلمة اقتصت له من المستهزئين به حين لامتهم لوما ، ووقفت تنتظر جوابا عن سؤالها ، فرد أحدهم : هذا خبز على ما يبدو ، ولم يسلم رده من سخرية أقرانه ، فالخبز في نظرهم ليس هو ذلك الشيء الدائري الأبيض المثقب المترهل ، الخبز هو قرص بني متماسك ومشدود ، وهنا ثارت حفيظة المعلمة حين علمت أن الصغار لا يعرفون “البغرير” ، لذلك قررت أن تتخلى في حصتها عن الطباشير وتكتفي بدرس في خبايا البغرير ، وأخرجت لهذه الغاية مقاديرها من خزانة القسم ، وهي تعرضها على أنظار الصغار كالآتي :
ـ انتباه ، اليوم سأصنع لكم “بغرير” حتى تعرفوا تاريخ الأجداد وحضارتهم وحتى تطلعوا على تراثكم اللامادي ، وحتى تخبروا أوليائكم أن البغرير فيه بأس شديد ومنافع للناس ، ولصناعة البغرير أحتاج إلى : بوطة صغيرة وطبعا راكب ليها الراس ، ثم مقلة يشترط فيها أن تكون ذات قاع مصقول غير مخربش ، وكمية من الدقيق الفورص ، وقد تعبت في البحث عن أصل هذا النوع من الدقيق المسمى الفورص فلم أجد له أصلا ولا فصلا ، ثم كمية من الماء والملح وقليل من الخميرة مع “مُغْرفة ” ، وأخيرا شيفونة نحتفظ بها للضرورة ، بعد خلط الماء بالفورص والملح والخميرة نقوم بتحريك الخليط حتى يخثر ويخمر ، ونضع المقلة فوق البوطة ونشعل النار تحتها هكذا ، وننتظر إلى أن يسخن قاع المقلة لنغرف كمية من الخليط الخاثر بالمغرفة ، ونكبها فوق المقلة ثم نمررها فوق القاع بلطف هكذا كما ترون ، وستظهر فقاعات أو نُبّْيلات ، ننتظر حتى تتلاشى لأقوم بشد البغريرة من جنبها ثم أحملها بليونة وأقلبها على وجهها ، وهكذا أحصل على بغريرة شهية ، ما بين البغريرة والبغريرة أحك قاع المقلة بالشيفونة التي أمزجها بقليل من الماء حتى أمسح قاع المقلة ، وختمت المعلمة خلطتها وهي تتوجه الى تلاميذها : هل فهمتم ؟ من لديه سؤال أو ملاحظة ؟ .
اندهش الصغار لصنيع معلمتهم ، وراحوا يحملقون في اكتشافها ، فهمس أحدهم لزميله : معلمتي صنعت CD ، نعم هل يمكن إدخاله في الحاسوب ، ونتيليشارجي فيه الألعاب ؟ ، وقال آخر : معلمتي مخترعة بارعة لقد صنعت قطعة ثوب من الدقيق والماء ، إنه ثوب ناعم ، له ظهر أملس ووجه قاصح ، وعلق ثالث : هذا يشبه فواكه البحر ، هل إذا وضعنا هذا الشيء في الماء يمكنه أن يسبح ؟ ، ثم قال خامس : لكن هذا يشبه الخبزة ، البغريرة إذن هي خبزة بدون عمود فقري ، أو لنقل إنها خبزة من سلالة اللافقريات أو خبزة رخوية .
حينها تدخلت المعلمة وضربت على المكتب وهي تأمر الجميع بالصمت والانتباه ، هل فهمتم الآن معنى “البغرير” ؟ ، يسألونكم عن البغرير وعن سر إدراجه في المقرر ، فسألها أحدهم : أستاذة لماذا شكل البغريرة دائما دائري ، وهل يمكن ان نتصور بغريرة ذات شكل مربع أو مثلث ؟ ، فأجابته : تتخذ البغريرة شكل قاع المقلة ، وشكل طريقة صب العجينة الخاثرة ، لذلك يمكن اللعب بشكل البغريرة كما نشاء وكما نستطيع ، فنربعه أو نثلثه أو نسطله ، ( أي يكون مستطيلا) ، ثم سأل آخر : هل هناك طريقة لحساب مساحة البغريرة ؟ ، فأجابته : نعم وذلك بنفس طريقة حساب مساحة الدائرة العادية ، فهناك قطر وشعاع ، وإذا كانت مربعة نستحضر قاعدة حساب مساحة المربع وهكذا ، وسألها ثالث : وهل هناك طريقة لإحصاء عدد الثقوب الموجودة على وجه البغريرة ؟ ، فقالت : إلى حدود اليوم لم يجرؤ عالم على ابتداع قاعدة لحساب عدد ثقوب البغريرة ، ربما يتحقق ذلك في قادم السنوات مع هذه الثورة التقنية الجديدة ، وسألها آخر : وكيف نأكل هذه البغريرة ، هل نلتهمها من الأطراف أم نطويها ثم نزدردها، أم نبتلعها دفعة واحدة أم نقضمها ضغمة ضغمة ؟ ، حينها ابتسمت المعلمة وقالت : من يريد تعلم أكل البغرير عليه غدا إحضار قليل من العسل الحر من دارهم ، وسيجدني إن شاء الله قد حضرت “طرحا من البغرير” و وسآكله كله أمامكم لتتعلموا كيفية أكل البغرير.
الآن وبعد أن حضرنا البغرير وتعرفنا عليه عن قرب ، من منكم يمكنه أن يشرح لي ما معنى البغرير لغة واصطلاحا ؟ ، فأجاب أحدهم : البغرير مشتق من فعل بغرر يبغرر ، أي خلط الفورص مع الماء وقليل من الملح والخميرة وطيب الكل فوق مقلة ، والمفرد بغريرة والمثنى بغريرتان ويجمع جمع تكسير على صيغة البغرير ، وليس في البغرير مذكر أو مؤنث ، ويتشابه البغرير مع بعضه ويتسحيل تمييز بغريرة عن أختها وسط “طرح البغرير” ، أما اصطلاحا فالبغرير هو تحويل الحصة الدراسية إلى استوديو ماستر شاف ….أوقفته المعلمة و قمعته ، وأشارت إليه بالجلوس والسكوت .
ثم سألت المعلمة : متى ظهر البغرير ، ومن اخترعه ؟ ، فأجاب أحدهم : ليست هناك أدلة قطعية حول مصدر البغرير ، وقد اختلف العلماء حول ذلك ، هناك من قال إن مصدر البغرير هو بنغرير ، او بنجرير ، وهناك من قال إن البغرير مجرد خلية استقلت عن البوخمير خلال السبعة ملايين سنة المنصرمة من عمر الكرة الأرضية ، وهناك من نسب أصل البغرير إلى المسمنيات أو البطبوطيات اللواتي لا يطبخن إلا فوق المقلاة ، وعن التسمية اختلفت الروايات كذلك بين قائل بأن تسميته بالبغرير تعود إلى كونه كان لدى اليونان والفرس وجبة المريض الذي لا أسنان له ، فكانوا يغرغرونه له تغرغيرا حتى يصرطه ، واقتبس اسم البغرير من صوت التغرغير ، وأما عمن اخترعه أو اكتشفه ، فيشاع أن البغرير خبز حمله الفضائيون إلى الأرض ، وكانوا يقتاتون منه قبل أن يطردهم ” كريندايزر وسلاحف النينجا” ، ويشاع في رواية أخرى أن البغرير كان في أول الأمر كائنا حيا برمائيا ، وقد خان الأمانة فعاقبته آلهة الرومان بأن جردته من الروح وتركته يقلى فوق النار ، وتذكر مصادر أخرى أن البغرير كان يطهى فوق صخرة عند الإنسان البدائي ، وذلك قبل ظهور عصر “الماعن” واختراع المقلة ، ثم تطور الأمر وصارت البغريرة تطهى فوق زليجة من الزليج الأحمر ديال السطح ، وختمت المعلمة بسؤال لتلاميذها ، هل فهمتم جميعا الغاية من إدراج البغرير في المقرر لهذه السنة ؟ ، فخاطبها تلميذ منزو في القسم قائلا : الآن فهمت لماذا تحب أمي وجاراتها البغرير، لأن فيه بنغرير و الفضائيون وسلاحف النينجا و آلهة الرومان وهي بروتينات مهمة لنمو طفل في سني ، من اليوم سأتناوله ولن أفلته ، وهو رطب لا يحتاج إلى مشاق المضغ ، وقاطعه تلميذ بالقول : معلمتي هذه قاعدة لحساب ثقوب البغريرة ،توصلت إليها عبر هذا “الأبليكاسيون” ، إذا كان ثمن الزينة من البغرير هو 6 دراهم ، و الزينة تتكون من 12 بغريرة ، فيمكن أن نضرب 12 في 6 وثم نضرب الحاصل في عدد أسنان الملتهم لنحصل على حاصل نقسمه على عدد أيام الأسبوع ثم نضرب الخارج في عدد أيام السنة ، لنحصل في النهاية على عدد ثقوب البغريرة الواحدة .
حينها رن الجرس وانتهت الحصة ، فأمرت المعلمة التلاميذ بجمع أدواتهم ، في حين تكلفت هي بجمع بغريرها ومعداتها ، وخاطبت الصغار : ” لا تنسوا درس الأسبوع المقبل حول ” لبريوات ” ، أرجو البحث في الموضوع مثلما حصل في درس البغرير” ، استيقظت من عمق النوم لأجد نفسي مبتسما ، وتمنيت أن يراودني حلم عن درس “لبريوات ” ، وتناولت كتابي من تحت وسادتي ، وقد كنت بدأت في قراءته ليلة أمس ، ويدور حول تاريخ أبي بكر الرازي الذي أعد مختبرا في الفيزياء والكيمياء في القرن التاسع ميلادي لرصد المعادن و المواد وتصنيفها ، بعدما برع في الطب والفلسفة والفقه ، لكن أظن أن الرازي مات ناقص علم من علوم بغرير أمزازي .