الرأي

معادلة العثماني : استخراج الكهرباء من الشعب

محمد الشمسي
يواصل التلاميذ والتلميذات في مختلف الاعداديات والثانويات في كل ربوع المملكة ، خوض “ثوراتهم الصغيرة” ضدا في “ساعة العثماني” التي فرضها على الشعب فرضا ، وبلا مبررات ، و بات من محاسن هذه “الساعة الحكومية” الممقوتة أنها أنتجت جيلا جديدا من “الثوار الصغار” ، وزرعت في أذهانهم فكر الاحتجاج ، وترديد الشعارات ،وهيأت لهم المناخ الأنسب للتدرب على المسيرات ، وإذا بقي العثماني على حاله يضرب الأخماس في الأسداس ، فلا غرابة أن تخرج مسيرات من الكتاتيب ودور الحضانة .
تذكرني مسيرات الصغار الرافضين لساعة الحكومة ، بمستهل التسعينيات عندما كنا يافعين في المرحلة الثانوية ، وخرجنا للاحتجاج ضد قرار الحلفاء غزو العراق ، لم يكن الزمن كالزمن ، لا انترنت ولا فضائيات ولا وسائل التواصل الاجتماعي ، باستثناء ما تجود علينا به قناتان يتيمتان ، وبعض المحطات الإذاعية ، ولا تنسيق ولا تواصل بيننا إلا على الطريقة التقليدية البدائية ، لقاء قرب باب ثانوية المختار السوسي بعمالة بن امسيك سيدي عثمان آنذاك ، لنتبادل المعلومات حول عدد طلعات أسراب المقاتلات ، وعدد الضحايا ، وصمود الدفاعات ، ولنحرض بعضنا البعض ، فيتشكل حشد من أقراننا وقريناتنا ، وننطلق نكتسح ساحة الثانوية، نصيح ملء الحناجر ، بشعارات رافضة لقصف بلد شقيق ، مطالبين بإرجاع جيشنا من خارج الوطن ، ثم نخرج بمسيرتنا خارج الثانوية فنجد رجال الشرطة بهراواتهم السوداء في انتظارنا ، أذكر أني كنت من بين من تم اعتقالهم ـ أو نقل صيدهم ـ ذات يوم من بين المحتجين ، لكن لا أذكر التفاصيل ، كل ما أذكره عن الحادث هو قبضة بوليسي تحكمني من قميصي وتجرني إلى داخل سيارة ” الأمن الوطني” ، والباقي مر مثل خلسة المختلس ، شيء من الغيبوبة أو ربما حلم امتزج بواقع ، ضرب وركل وخبط وسباب وأي سباب ، ثم لفظتني سيارتهم بعدما أخمدوا حماستي ، وتركوني أتحسس آلامي يحيط بي زملائي ممن وجدوني غير الذي ابتلعته سيارة البوليس ، لم يكن يومها لا يوتوب ولا فيسبوك ولا غوغل ، واصل الحلفاء قصف العراق ، ولم يوقفوا غزوهم ، فرفضنا أن نوقف مسيراتنا ، وطالبنا بسنة دراسية بيضاء ، فجادت علينا إدارة الثانوية بإعفائنا من الدورة الثانية من الاختبارات ، والمرور مباشرة للدورة الثالثة والأخيرة ، وعلمت فيما بعد أن قرار الإدارة كان صورة من صور “الرشوة الدراسية” لتشجيعنا على إنهاء مقاطعتنا للحصص الدراسية .
هناك فقط أربعة أشخاص وجدتهم مبتهجين “للساعة العثمانية “، من بين جميع سكان المغرب الأقدمون منهم و الجدد كلهم يرفضونها ، وهؤلاء الأربعة هم مؤسسها العثماني ، ووزيره بنعبد القادر ، وثالثهما من خارج الحكومة وهو إدريس لشكر ، ورابعهم “العلامة” الريسوني ، الذي وصف المغاربة الرافضين للساعة ب”الغوغاء” ، هؤلاء فقط هم من عبروا علنا عن القبول بهذه الساعة والتسليم بها والدفاع عنها ،ربما لأنهم يستيقظون متى شاؤوا ، وأنهم يتحكمون في الوقت ولا يتركون الوقت يتحكم فيهم ، بالمقابل مقتتها كل الأحزاب وفي الغرفتين ، وكذا الجمعيات والنقابات وحتى الشركات والصيدليات .
ليست هناك دراسة علمية استند عليها العثماني في قرار ساعته ، وليس هناك شيء علمي في قرار يُفرض يوم الجمعة لينشر في الجريدة الرسمية يوم السبت ويدخل حيز التنفيذ يوم الأحد ، ولم ينشر العثماني دراسته ، واكتفى بنشر خلاصة لها ، وما أبشعها من خلاصة ، حيث لم تذكر الدراسة عدد المستجوبين ، ولم تنشر نسخة من الاستمارة التي تحمل نوعية الأسئلة الموجهة للمستهدفين ، بل إن عددا من المحطات الإذاعية في إطار تناولها لموضوع ساعة العثماني أهابت بكل من شارك في الدراسة أن يربط الاتصال بها ، ولم يتصل أحد ، حتى تولدت الشكوك في ان يكون هناك دراسة أصلا ، وهذه إن ثبتت وجب محاكمة العثماني .
بالنسبة لمبرر “الأمن الطاقي” ، فهو لا يعدو أن يكون مبررا لإخفاء الرؤوس في الرمال ، وحين أخرج العثماني عيناه ، كان يجدر الرد عليه على لسان المغنية نجاة عتابو ” هاي هاهي وا هادي كذبة باينة ” ، ولعلها سابقة في علم الاقتصاد أن يسعى رئيس حكومة الى توفير الطاقة عن طريق تعذيب شعب ، وفي نهاية المطاف لا الشعب نام نصيبه الطبيعي ، ولا الطاقة تم توفيرها ، وقد ذكرني العثماني في إشاعة “الأمن الطاقي” بجارتنا التي كانت تتوعد ابنها بالقول ” نشدك نخرج منك الزيت ” ، وكنا صغارا ننظر إلى ابنها باعتباره قنينة من الزيت ، ونتمنى من والدته أن تقبض عليه لنتفرج على عملية “إخراج الزيت” ، وقد علق أحد الظرفاء على أضحوكة “الأمن الطاقي” بالقول : “إذا كانت إضافة ساعة تمكننا من توفير الاكتفاء الذاتي في الطاقة ، فلم لا نزيد ساعتين ونشرع في تصدير الكهرباء الى الخارج ؟ ” وزاد صاحبنا متهكما :” هذه أول حكومة تريد استخراج الكهرباء من الشعب “، لعلها حكومة تفكر مثل جارتنا إياها .
ساعة العثماني “عا زايدة ” ، وهو نفسه غير مقتنع بإضافتها ، وملامحه تقول أن الرجل ربما لا يسمع نفسه حين يتحدث ، وعندي اليقين أنه يعيش معارضة شرسة في دواخله ، وكذا مع أفراد أسرته والمقربين له ، وليسمح لي رئيس الحكومة المبجل أن أخبره عن أمجاد ساعته ، تلك ، أن جاري أيقظ ولداه بشق النفس على الساعة السابعة صباحا بتوقيت “عثمانيتش” أي الساعة السادسة بتوقيت غرينيتش ، وأن الصغيرين لم يقويا على فتح عيونهم ، وأنهما فزعا لخروجهما في الظلام الدامس ، معتقدين بسذاجة الصغار أنهما في سفر ، وعند صعودهما الى سيارة والدهما وجلوسهما في المقاعد الخلفية ، ناما من جديد متكئين على بعضهما البعض مثل شبلين ، وحين وصل بهما والدهما الى باب المدرسة ، ووسط الزحمة توقف جاري بسيارته ليتقدم منه عامل تابع للمدرسة ويأخذ الصغيرين الى داخلها ، فكان الصغيران في “سابع نوم” ، ولم تفلح المناداة عليهما ، ولا حتى ململتهما ، بل ولا حتى صفعهما ونهرهما ، وطابور السيارات ينتظر استيقاظ الصغيرين لفك خناق الشارع ، والمنبهات على أشدها ، ونال العثماني في صباح ذلك اليوم أدعية لا استجاب الله فيها للداعين بها على رجل كان يبدو أليفا ، لكنه كشر على أنيابه ، وباتت قراراته تنتهي بالمشاكل المهددة للسلم والأمن الاجتماعيين .
كان على العثماني أن يفتح نقاشا تشاركيا كما ينص على ذلك الدستور ، يعلن فيه عن إطلاق دراسة للاستفتاء على موضوع الساعة ، ثم يعرض دراسته على الأمة التي صوتت عليه ، ومن ثم يدخل في حوارات وينصت لنبض الشارع ، ويمنح لنفسه أجالا قد تصل الى سنة أو نصفها ،ما دمنا غير “مدعوقين ” بالوقت ، و يقلب القرار من كل جوانبه ، فإذا أفتى الشعب بجواز العمل بساعة الحكومة ، تسعى هذه الأخيرة الى ملائمة مواقيت الإدارات ، ويكون الاختيار جماعيا ، وإذا تبين له أن الساعة الزائدة لا خير فيها ، وقى الرجل المغاربة شر الاحتجاج والغضب ، ووقى نفسه شرور أحقاد يفرغها الكثيرون في ساعته التي لسعتهم عقاربها .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى