كنا ولا زلنا نعتبر حراك الريف خاصة ، وكل حراك عامة ظاهرة صحية ، وما أحوجنا إلى المزيد من الاحتجاجات والمسيرات ، لنصحح مسارنا ، شريطة أن تكون احتجاجات مسؤولة وهادفة وجدية ووجيهة ، فالاحتجاجات تمارس ضغطا على كل مكونات الدولة من حكومة وبرلمان ومؤسسات ، بل و يصل صداها إلى البلاط الملكي ، فالحراك تمرين ديمقراطي ، والدولة التي لا يتسع صدرها لسماع نبض شعبها غير جديرة بحمل صفة دولة ، والمسؤول الذي ترهبه مسيرة أو وقفة تحمل لافتات عليها المطالب الشعبية ، فيسل مسدسه أو هراوته لأجل تفريق الحشود ، هو مسؤول فاشل ، فما دور الدولة غير الاستجابة وتحقيق مطالب الشعب ، والتحاور معه ؟، أليست كل مكونات الدولة هي أجيرة لدى الشعب؟ ، فحتى الملك بقدره ، يقدم نفسه في خطبه بأنه خادم الشعب ، وحراك الريف يحمل من الوجاهة والجدية ما يجعله يستحق من الدولة أن تلبي المستعجل الممكن من المطالب ، وأن تبادر إلى تحقيق ما تبقى من خصاص وفق أجندة محكمة .
على أنه لا يمكن أن نختزل حراك الريف في شخص واحد ، أو حتى عشرة أشخاص أو عشرين ، فالحراك ملك للمغاربة من سكان الريف العزيز ، ومسيراتهم تزحف بالآلاف لا تقتصر على واحد أو أثنين أو ثلاثين حتى ، لذلك فإن ما اقترفه ناصر الزفزافي عندما هاجم مسجدا وإمامه يخطب في المصلين يوم الجمعة هو سلوك أرعن خارج عن لياقة وعادة أهل الريف ، وهو جرم يتحمل وحده عاقبته ، والحراك من براء ، سلوك يرفضه المغاربة من “ريافة ” و”جبالة ” شمالا وشرقا إلى “صحراوا” و”سواسا” جنوبا مرورا ب”غرباوا و زعير والشاوية وعبدة ودكالة وشياظمة ” غربا ووسطا دون نسيان باقي الأعراق المغربية ، فكل دور العبادة الخاصة بالأديان السماوية الثلاث خطوط حمراء ، سواء كانت مسجدا أو كنيسة أو ديرا يهوديا ، والاعتداء عليها مدان ، ولا يقوم به إلا مختل .
فالزفزافي “زاد فيه” ، وتناسى الرجل أنه نكرة في عالم النضال والمسيرات ، وأنه مجرد ناشط فجائي يقتات من جثة تاجر السمك المقتول طحنا في ميناء الحسيمة .
أن يعتقل الزفزافي ويتم التحقيق معه حول جريمته النكراء ، فهذا هو عين القانون ، على أن روح القانون كذلك أن لا يتم معالجة جريمة بجرائم أخرى ، فتسريب صور خاصة للرجل عبر وسائط التواصل الاجتماعي فيها تحريض عليه وتهييج للعامة والدهماء ضده ، لكن لا يمكن البتة وضع كل البيض في ذات السلة ، فالحراك يجب أن يظل متحركا متحررا دءوبا إلى أن يحقق الريف مطالبه التي تبين للسادة الوزراء أنها مطالب معقولة ، بعدما سبق للسادة الوزراء أن رشقوا الحراك بعبارات وأوصاف قدحية ، تسيء لهم أكثر ما تسيء لأهل الحراك .
السيد الزفزافي بجرأته على بيت للعبادة أكد أنه هو المراهق سياسيا ، الرجل بلغ من التنطع حدا لا يمكن فهمه إلا من زاويتين : فإما ان الرجل في حاجة إلى دروس دعم وتقوية في النضال وممارساته ، وهذا يحتاج إلى بعد نظر وحكمة في التصرف وشورى في القرار ، أو أن الرجل فعلا تتحكم فيه جهات خارج إرادته ، أوصته أن يضرم النار في الريف ، ويستفز قوات الأمن ويرغمها على اعتقاله ، فشخصيا لم أجد في ما قام به هذا الرجل شيئا من العقل ، فما ذا سيقدم انتهاك حرمة مسجد وقطع خطبة الجمعة من إضافة إلى الحراك ؟ وما ذا سيجني المحتجون من فيديوهات تسب وتلعن كل مسؤول ؟ ، ما لم يكن الزفزافي هو من أراد لنفسه الاعتقال مع سبق الإصرار والترصد ،فهذا الرجل لا يمثل الحراك ، وعقابه واجب ، لكن ربط طيشه بالحراك وجودا وعدما أمر غير منطقي.
لعل سياسة تقزيم الأحزاب ، والتدخل في قراراتها ، وسلبها روحها ، وصناعتها تحت المجهر ، وتعيين المعارف والأصدقاء على رؤوس أماناتها العامة ، بدأت تعطي ثمارا غير طيبة ، فقد ظهر من الشعب قوم يريد أن يتخطى الحزب والنقابة والجمعية ، ويريد أن يجعل من نفسه مخاطبا منفردا ، فتتحول الدولة لتحاور ما يقارب 35 مليون متحدث ، وصارت الوقفات الاحتجاجية غير مؤطرة ، وبات كل من لم يحقق مكسبا يقتني لافتة وعلما وطنيا ويهرع إلى الشارع ، قبالة محكمة أو برلمان أو بلدية ، ويكفي أن حراك الريف أعلن تمرده على الأحزاب ، وبات يبحث له عن مخاطب ، وعليه فعلى من يجد متعة في قتل الفعل السياسي الحزبي أو النقابي أن يراجع سياسته ، فهي شبيهة بمن يجد متعة في سل أحجار جدار سد ضخم ، ويوما ما سينهار الجدار ويفيض السد ويجرف الجميع .