الرأي

على من اعتدى بوعشرين ؟

عندما تحدثت وسائل إعلام أن عناصر من الفرقة الوطنية ، بما تحمله العبارة من معنى ، قامت بمداهمة مقر جريدة “أخبار اليوم” واعتقال توفيق بوعشرين من داخلها ، لم يكن أكثر المتفائلين يتوقع أن يتعلق الأمر في نهاية المطاف بمجرد شكايات لمواطنين عاديين ، كانت الأيادي فوق القلوب المرتجفة ، من أن فصلا جديدا من فصول الحرب بين الصحافة والقضاء قد أطلقت شرارتها ، حرب يخسر فيها الطرفان ، ولا ينتصر فيها سوى أعداء المغرب ، وتقارير المنظمات الدولية غير الحكومية ، التي تكتب إسم المغرب في خانة الدول التي تعاني فيها حرية التعبير ، وجاء بلاغ السيد الوكيل العام بغموضه ليرش كثيرا من الملح فوق جرح المخاوف ، ورغم أن البلاغ قطع الشك باليقين من أن اعتقال بوعشرين لا علاقة له بأعمال الصحافة والنشر ، فإن استدعاء الفرقة الوطنية لصحافيين من نفس المجموعة الإعلامية لتوفيق ، أعاد احتمال وقوف صاحبة الجلالة خلف الاعتقال ، وما لبثت الحقيقة أن اتضحت ، وتأكد أن المداهمة والاعتقال والبلاغ ، كل ذلك مرتبط بشكايات تتعلق ب”اعتداءات جنسية ” دون تحديد مفهوم “الاعتداءات الجنسية ” ما إذا كانت اغتصابا أو هتك عرض أو تحريض على الفساد أو تحرش ، ودون تحديد ما إذا كان الشكايات تشكل جناية من الطبيعي أن يصدر فيها السيد الوكيل العام تعليماته ، أو جنحة هي من اختصاص وكيل الملك .
اعتقال بوعشرين بتلك الطريقة ، ومن مقر عمله ، ودون سابق استدعاء ، ودون سابق بحث معه ، يجعل الانطباع السائد أن الملف انطلق انطلاقة خاطئة ، لأنه وببساطة تم اعتقال الرجل أولا ، ثم إخضاعه للتحقيق ثانيا ، في غياب حالة التلبس التي حدد القانون حالاتها على سبيل الحصر ، بمعنى أن عناصر الفرقة الوطنية داهمت مقر عمل بوعشرين ، واعتقلته وساقته إلى مقرها ، ووضعته رهن الحراسة النظرية ، ثم شرعت في الاستماع الى تصريحاته حول المنسوب إليه في تلك الشكايات فيما بعد ، وما ذا لو أن بوعشرين أخبر المحققين أنه كان خارج أرض الوطن تاريخ الوقائع الواردة في الشكايات ؟ ، أو أنه كان يخضع لعملية جراحية حينها ؟ أو …أو ….، كان حري أن يُستدعى الرجل كبقية خلق الله ، ويُستمع إليه في محضر قانوني ، وتتم المواجهات الضرورية ، والخبرات والمعاينات ، والاستماع إلى الشهود ، وعلى ضوء ما يسفر عليه البحث تتخذ النيابة العامة قرارها ، وقرار النيابة العامة من حيث سلطة الملائمة لا رقابة عليها فيها من طرف أي كان ، وهي لا تحتاج إلى إصدار بلاغات لتبرير ما اتخذته من قرارات ، لكن أن يوضع توفيق رهن الاعتقال ، ثم يُستمع إليه لاحقا ، فالأمر شبيه بمن أدى الصلاة ثم توضأ ، أو بمن أجاب على سؤال ثم فكر ، بوعشرين ليس كائنا معصوما من الخطأ ، لكن بوعشرين كذلك ليس من الطينة التي تُنسب إليها تهمة كتلك المشار إليها في بلاغ الوكيل العام للملك ، فالرجل يعلم علم اليقين أن أنفاسه مراقبة ، لأنه يحوز قلما حرا ، ويمتلك جرأة في نقد واقع بلده المغرب ، وهو بذلك يعتدي على مصالح الانتهازيين من مصاصي دماء وطننا الحبيب المغرب ، ويعري سوأتهم ، ويكشفهم أمام الشعب ، لكن اعتدائه عليهم ليس جنسيا ، بوعشرين صحافي في بلد تبعد فيه الصحافة عن الجريمة بملمترات ، و بوعشرين من بقايا “أهل الإعلام ” المنحازين لقضايا الوطن والمواطن ، فهو ليس من التوابع السياسية ممن ينشدون أناشيد أحزابهم ، أو أولئك الذين يغنون أغاني من يأكلون من خبزهم ، وهو ليس مريدا لشركات الإعلانات وأربابها ، وليس طبّالا ولا زمّارا يردد الرسميات ببلادة .
وما دامت الشكايات الموجهة ضد بوعشرين لا ترتبط بعلمه الصحفي ، فل لم تتم مداهمة مسكنه ؟ ، أو على الأقل مداهمة بيته بالتزامن مع مداهمة مؤسسته الإعلامية ؟ ، ثمة علامة استفهام عملاقة تشوب الواقعة ، إلا إذا كانت مداهمة بوعشرين في قلب “اخبار اليوم” المزعجة ، يحمل تخويفا للطاقم الصحفي ، وجعله يهيم في شكوكه واحتمالاته ، ورفع منسوب الأدرينالين في دواخله ، ودفع بعضهم إلى الندم على امتهان مهنة الصحافة ، أو على الأقل الندم على العمل بمعية صحافي يعبد الضمير المهني ، وفيه استعراض القوة على بوعشرين أمام طاقمه الإعلامي لتحسيسهم أن هناك من هو أقوى من قلمه ومن مقالاته ومن جريدته ومن مهنته ، ثم تبيان أن المؤسسة الإعلامية ليست حصنا يمكن الاحتماء بها ، وأخيرا إذلال الرجل وسوقه نحو مخفر الشرطة علنا ، والقول له على لسان أبي تمام :

السيف أصدق أنباء من الكتب …في حده الحد بين الجد واللعب .
بيض الصفائح لا سود الصحائف ….في متونهن جلاء الشك والريب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى