شعب “المداويخ والخونة ” يقول كلمته

بادئ ذي بدء وجب التنبيه إلى أن قرار فئة من الشعب مقاطعة منتجات بعينها ليس جريمة ، فهو صورة من صور حرية المستهلك في اقتناء هذا المنتج دون غيره ، و الذي ليس مفهوما ليس هو الجهة التي انتقت علامات تجارية بذاتها ثم قررت محاصرتها ، ففي عالم الانترنت حيث لم يتحول العالم إلى قرية صغيرة فقط ، بل صار العالم كله عبارة عن هاتف ذكي في الجيب ، يستحيل تتبع رأس الخيط الموصل لمحرك المقاطعة ، ومحدد العلامات التجارية المستهدفة ، ودعونا نخرج من سؤال من المسؤول ؟ ومن المستهدف ؟ ولماذا هذا دون ذاك ؟ ولماذا الآن ؟ ، إلى سؤال أرحب وأوسع هو ، هل يستغل المستهلك المغربي العالم الافتراضي لتأسيس قوته الضاغطة التي باتحادها يقلم أظافر شركات يرى أنها أينعت وتعملقت “وخرجت أرجلها من الشواري ” وحان قطافها و مقاطعتها ؟ ، وتطوير تلك القوة الضاغطة لتملأ فراغ أجهزة المراقبة ، وتفرض رقابتها وصوتها ، وقد تطور طريقة اشتغالها ، وترفع من منسوب مطالبها ، من معركة خفض الأسعار اقتصاديا ، إلى معركة اقتراح وإنتاج الأفكار سياسيا .
ليس قرار المقاطعة هو الحدث بذاته ، ولا قرار انتخاب علامات تجارية دون أخرى ، ولا الممول الرسمي للحملة ، بل إن ردة الفعل على حملة المقاطعة هي الحدث الأبرز ، فإذا كان “فكر الحشود ” قد اتسم لدى الباحثين في علم الاجتماع بالإصرار إلى حد العناد ، فإن ردات الفعل على تلك الحشود المقاطعة اتسمت بكثير من النزق والتهور ، بل وصلت إلى اقتراف جرائم ، لو وقعت في دول تحترم شعوبها لكانت هناك إقالات واستقالات ، فأن يستغل مثلا وزير في حكومة الشعب ، منصبه الوزاري ، ويوجه سبابا علنيا لفئة من الشعب اختارت المقاطعة ، ويشكك في قواهم العقلية ويصفهم ب”المداويخ ” ، وفي قبة البرلمان الذي يحوي ممثلي الأمة ، فهذه جريمة متكاملة الأركان ، فمعالي الوزير عبر عن وجهة نظره هو ، وعن موقفه هو من فعل المقاطعة ، ومعلوم أن منصبه الذي يحتله يمنع عليه استغلاله للتعبير عن مشاعره وأحاسيسه ، فهو كوزير يتحدث بلغة الأرقام الرسمية ، وبلسان سياسة الحكومة التي هو عضو فيها ، لذلك لم يعزز معالي الوزير سبابه ومهانته لفئة من الشعب بأرقام تؤكد أن المقاطعة أضرت بالاقتصاد الوطني ، أو أنها تهدف إلى خلخلة ثوابت هذا الاقتصاد ، بل إن الوزير استغل حقيبته الوزارية ليضرب بها ثلة من الشعب ، ودافعه في ذلك هو حماية مصالح رب حزبه ، وأخيه في الرضاعة السياسية ، فيكون قد آثر القرابة الحزبية على مهمته الوزارية ، ونسي معاليه يوم كان منتخبو حزبه يقفون أمام عتبات مساكن وبيوت أولئك “المداويخ” يستجدونهم للتصويت على مرشحيهم ، ثم تناسى أنه بات وزيرا بأصوات عدد كبير من هؤلاء “المداويخ” ، والغريب في الأمر أن رئيس الحكومة لم يتدخل ليصحح هفوة وزيره ، ويذكره أن عليه التمييز في حديثه بين بوسعيد الوزير ، وبوسعيد التجمعي ، ويعتذر لشعب “المداويخ” ، وينهر وزيره بالقول :”اللي داخ شد الأرض” ، ويقول له باللغة الفرنسية التي شب معاليه عليها ، ” le client est un roi “.
ثاني خرجة طائشة ردا على فعل المقاطعة هي تلك المنسوبة لبعض المسئولين في الشركات المستهدفة ، فهناك من وصف المقاطعين ب” خونة الوطن ” وهناك من بعث لهم برسائل تهديد مبطنة تقول إن “غيركم من سيدفع الثمن ” ، قد يكون الكسابة منتجو الحليب ، أو تسريح اليد العاملة من الشركة المقصودة ، ووجب تذكير أهل هذه العقليات بأن علاماتهم التجارية التي تجري مقاطعتها ليست هي الوطن ، وإن اعتقدوا ولو لوهلة أن الوطن هو هم ، وأنهم هم الوطن ، فيتعين عليهم الإسراع بزيارة أقرب مصحة لعلاج الأمراض العقلية والنفسية ، فقد تضخم لديهم الأنا وبات في حجم جبل لكن من رمال ، ولعل أكبر خيانة لهذا الوطن العزيز هو حصره في قنينة ماء معدني ، أو في علبة حليب ، أو في محطة وقود ، وأما تلويحهم بقلب الطاولة على العمال لديهم وتسريحهم جماعيا ، فهم بذلك يعلنون إفلاسهم ، ويعبرون عن فزعهم من المقاطعة ، وتناسوا أن هناك قضاء سيلزمهم بأداء تعويضات الأجراء المفصولين تعسفيا ، وستتحول أزمتهم إلى موت حقيقي ، و” الرزاق الله” ، أما منتجو الحليب من الفلاحين فهم في مقدمة طاحونتكم التي تحلبهم حلبا ، تشترون منهم لتر حليب كامل بدرهمين ونصف ، قسط منها نقدا وقسط نخالة وعلف ، وتعصرون من اللتر زبدة ولبنا وجبنا وتمزجون ما تبقى من الحليب ب “الما والزغاريت ” وتدفعون “لبني شعبون” ، ليستهلكوه بثلاثة أضعاف .
عموما رمى “المداويخ والخونة ” صخرة كبيرة في بركة ماء آسنة ، فقفز كل من فيه “الفز ” ، وسواء نجحت مغامرتهم أم لم تنجح ، فسيكتبهم التاريخ في خانة ” المجتهدين ” ، ، فب” دوختهم وخيانتهم ” أفقدوا ” أهل العقل” صوابهم ، ودفعوهم إلى استغلال مناصبهم لتحقير فئة من الشعب وتخوينها ، ولو كانت تلك العلامات التجارية تضم حكماء ، مثلما تكتنز الثروات ، لعرفت كيف تصدر بلاغات موضوعية وصادقة ، ولدعت إلى حوارات ونقاشات مفتوحة ، ولاعتبرت “المداويخ” و “الخونة ” شركاء وليسوا أعداء ، و لأدركوا أن حريق مساحات كبيرة من الغابات يبدأ بشرارة صغيرة ، ولأدركوا أنه ما أغرق فرعون وهامان غير التعنت والتكبر والاستعلاء .