الرأي

وما بوعشرين إلا صحفي قد خلت من قبله الصحف

محمد الشمسي

تتواصل محاكمة الصحفي توفيق بوعشرين ، والمحاكمة في آخر عمرها ، وهي محاكمة بتفاصيل عصية مركبة و زادتها السرية تعقيدا ، وكل الحيثيات والظروف و القرائن وحتى الأدلة ضد المتهم ، ومسألة إدانته وبعقوبة ثقيلة تلوح في الأفق ، لكن الكلمة الأولى والأخيرة في الإدانة أو البراءة هي للمحكمة ، على أن المثير في هذه المحاكمة هو أن هناك من يتعمد جعلها غير عادية وليس غير عادلة ، سواء من جانب المتهم أو من جانب ضحاياه ، أو من جانب من ينوب عنهما ، فالمتهم متشبث برواية ” تصفية حسابات مع قلمه ” وهو يراهن على مهنته الصحفية لجذب تعاطف قبيلة الصحافيين ، واعتبار محاكمته وسيلة لقتله مهنيا بسبب ما ” يشخبطه” في جريدته ، وهو بذلك يتخطى تلك الفيديوات التي أثبتت الخبرة التقنية لأعلى مؤسسة أنها فيديوات سليمة تقينا ولم يتم التصرف فيها ، ثم إنه استقوى في بداية محاكمته ببعض المحامين من خارج جسم الدفاع المغربي ، واستقدمهما لأجل إشعال النار في الملف ، وتحويله إلى قضية رأي عام دولي ، يستجدي بها عطف الدول والأنظمة والشخصيات المولعة بالدفاع عن حرية التعبير بنفوذها ومالها وجاهها ، ثم إنه لا يتوانى في عقد ندوات تلو الندوات من طرف من يبايعه ويؤمن بملفه ، وخلال تلك الندوات يتم رشق المحاكمة بل ومعها الدولة بكل عبارات القدح والتجريح .
أما الضحايا المفترضات لبوعشرين فقد أفل نورهن ، وانقرضن لم يبق يسمع لهن من صوت أو أثر ، وحل محلهن محامون ومحاميات تجاوزوا حدود الدفاع عن موكلاتهم إلى حدود المواجهة مع متهم أعزل في قفص الاتهام محبوس لما يقارب ثمانية أشهر ومريض ومهدد بعقوبة ثقيلة ، وعموما متهم غارق في حوض من الآلام والآهات ، لكن هناك من دفاع الضحايا المفترضات من وجد في بوعشرين فرصته للاقتصاص من المتهم حول ما جناه حزب العدالة والتنمية في حقه ، ثم هي مناسبة للبعض الآخر من إيجاد مساحة إعلامية له في زمن الزحمة ، وفي زمن بئيس نصنع فيه صنيعا بئيسا يسمى ظلما ب ” البوز” ، وقد أدى قرار جعل الجلسات سرية إلى خلط الأوراق وخنق الحقيقة وتشويهها ، وجعلها ذات أكثر من وجه وأكثر من روح وأكثر من عين ، فحين تفتح بوابة قاعة المحاكمة ببابيها العملاقين ، يخرج أحد من هيئة الدفاع من هذا الفريق أو ذاك ، ليجد ميكروفونات الجرائد الالكترونية متلهفة إلى قوله فيقول ما يشاء أمامها ، وخلفه يروي زميله ودفاع خصمه لميكروفون آخر حديثا معارضا لحديثه ، وتتضارب الأحاديث وتتداخل ، وتختفي الحقيقة من بين هذا كله وتتبخر ، ويصاب الدماغ الراغب في استجماعهما بالدوار .
وسيبقى التاريخ محتفظا بين ثناياه بتنبيهات صادرة لهيئة الدفاع من الطرفين في هذه المحاكمة ، موجهة لهما من طرف جمعية هيآت المحامين بالمغرب مجتمعة ، وهي سابقة لم يشهدها جسم الدفاع في مساره منذ الاستقلال ، فعندما وجد حكماء المهنة ونقباؤها وقداماها أن زملائهم زاغوا عن الخط التحريري لمهنة تقوم وجودا وعدما على أخلاقيات وأعراف تمنحها النبل حد القداسة ، كان لابد من إنذارت شفوية على الأقل للتمييز بين المهني والشخصي ، وبين القانون ووجهة النظر ، وبين الواجب والزيادة على الواجب ، وبين الدفاع والانتقام ، سيظل التاريخ يحتفظ للبعض بأنهم فتحوا رشاشاتهم في وجه سمو مهنة وتعالي رجالها ونسائها عن الصغائر ، وعن تحويل مهنة الرفعة إلى وضاعة يحاولون بها الاقتصاص لهم من متهم لا يكفيهم ما فيه ، بل يريدون سحقه وتحويله الى لحم مفروم ، ليس لأنه اعتدى على الضحايا المفترضات لكن لأنه محسوب على تيار لهم معه فواتير تحتاج إلى تسديد .
سيطوي التاريخ هذه المحاكمة بما لها وما عليها ، لكن مكر التاريخ سيحتفظ بنقطها السوداء ، من أن المتهم فيها حاول مع سبق الاصرار والترصد تحويل اتجاهها عنوة ، مريدا بذلك إلحاق الأذى بالوطن الأم ، وتصويره وحشا يأكل أبنائه غدرا ، وحاول بعض من هيئة الدفاع من الفريقين فتل مشنقة من رقي المهنة لشنق الأفكار التي لا تروقه ، سيذكر التاريخ بذاكرته التي تتسع لكل أحداث الكون وتزيد ، أن متهما ذات محاكمة وقف مثل أسير حرب بلا سلاح ، ووجد الأنياب تمزق جسده ، كما كان يفعل هو بأجساد نساء فوق كنبته بحسب تلك الفيديوهات الفظيعة ، سيذكر التاريخ أن “دوار أولاد الصحافة ” ، انقسم إلى شيعيتن ، شيعة ظلت تبايع توفيق على السمع والبراءة ، وشيعة تراه وحشا لا يستحق حتى محاكمة عادلة .
نقول في الختام بأنه وما بوعشرين إلا صحفي قد خلت من قبله الصحف ، أفإن أذنب وضبط وحوكم انقلبتم على وجوهكم في ندواتكم تناشدون الحلف الأطلسي والبيت الأبيض بالتدخل ، ونقول لخصومه ، بوعشرين متهم هو بريء بقوة القانون وليس صدقة من أحد ، حتى تثبت إدانته ، لكن مادام المتهم غارقا في معاناته وهمومه التي جاءته صفا صفا ودفعة واحدة ، نقول “إن الضرب في الميت حرام ” .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى