الرأي

الإيمـــان والفـــلسفة أيـــة عــــلاقــــة ؟

في الواقع إن سؤال العلاقة بين الإيمان والفلسفة ليس سؤالا جديدا بل هو سؤال قديم قدم لقاء الدين بالفلسفة، وهو لقاء أسس لأوجه متعددة ومختلف باختلاف وبتعدد المواقف، مواقف تخللتها توثرات وصدامات وفي بعض الأحيان تصالحات، إلا أن ما يلاحظ هو أن هذا السؤال بالرغم من قدمه لازال يعيد طرح نفسه باستمرار، وهذه المرة ليس على لسان علماء الدين والفلاسفة بل على لسان أساتذة التربية الإسلامية، طرح نفسه هذه المرة بالصيغة التالية : الاقتراب من الإيمان يتطلب الابتعاد عن الفلسفة. فهل فعلا كلما ابتعدنا عن الفلسفة إلا واقتربنا من الإيمان والدين؟ وهل الفلسفة أس السفه والانحلال ومادة الحيرة والضلال كما ورد على لسان “ابن صلاح الشهرزوري” المستشهد به في مقرر منار التربية الإسلامية ؟ وهل التوتر القائم بين الإيمان والفلسفة توثر يعود فعلا إلى طبيعة الدين وطبيعة الفلسفة كخطابين متعارضين أم يعود إلى أسباب سياسية ؟ ألا يمكن القول أن تاريخ العلاقة بين الدين والفلسفة هو تاريخ التوظيف السياسي لهذه العلاقة ؟ ألم تقحم الدولة الدين والفلسفة في حقل الصراع السياسي وفي تعاطيها مع أزماتها السياسية ؟.

إن التصدي لهذه الإشكالات ليس بالأمر السهل لذا من الضروري التسلح بالحس التاريخي لإجراء مقارنة بين ما حدث في ق 13م وما يجري اليوم لمعرفة ما يوجه مقررات التربية الإسلامية.

لقد ساد توجه ثقافي في الماضي ومن خصائصه القول بأنه كلما ابتعدنا عن العلم إلا واقتربنا من الدين الإسلامي، أي اقتربنا من خصوصيتنا وهويتنا الثقافية وابتعدنا عن ذلك الأجنبي والوافد على ثقافتنا من فضاء ثقافي مغاير ومختلف عنا ويهدد أمتنا واستقرارنا ويربك تماسكنا كأمة، لهذا يشكل حضوره بين ظهرانينا إزعاجا لنسيجنا الفكري والثقافي والديني.

روج لهذا التوجه علمين هما “أبو حامد الغزالي” وشيخ الإسلام “ابن تيمية” في ق 13م.

لقد اعتبر “الغزالي” أن العلوم العقلية علوم يونانية، وجميعها إما تؤدي إلى الكفر أو أنها تمهد له. فبالرغم من أن العلوم الرياضية – في نظر الغزالي- لا تتعلق أمورها بأمور لها ارتباط بالدين والإيمان، فإن ضررها عليهما هو في نفس مرتبة ضرر العلم الطبيعي وما بعد العلم الطبيعي اللذين يؤديان إلى الكفر، وعليه يجب صد المسلمين عن الخوض في العلوم الرياضية.

في نفس التوجه ذهب شيخ الإسلام “ابن تيمية” الذي روج هو بدوره لفكرة الابتعاد عن العلم يقربنا من الإيمان ومن الدين. فقد دعا هذا الأخير إلى الاستناد على الطرق الشرعية في حل معضلات المسلمين والابتعاد عن مسلك الطرق العقلية لأنها طرق لا فائدة من ورائها. ولهذا لا حاجة لنا بها ذلك أنه يكفي تقليدا السلف الصالح وإبعاد كل ما هو أجنبي ودخيل على حضارتنا وثقافتنا إن لم نقل رفضه ومحاربته خوفا من فقدان هويتنا الثقافية، وما يدل على ذلك ما كتبه ابن تيمية قائلا: “إن العقل لا يكون دليلا مستقلا عن تفاصيل الأمور الالهية (…) فلا أقبل ما يدل عليه إن لم يصدقه الشرع ويوافقه. فإن الشرع قول معصوم الذي لا يخطئ ولا يكذب، وقول الصادق الذي لا يقول إلا حقا، وأما آراء الرجال فكثيرة التهافت والتناقض، فأنا لا أثق بآراء هؤلاء المختلفين المتناقضين الذي كل منهم يقول بعقله ما يعلم أنه باطل، بخلاف الرسل فإنهم معصومون فيما يبلغونه عن الله من الخبر والطلب” وجد هذا الموقف الاستجابة من طرف “ابن الصلاح الشهرزوري” الذي يستشهد به مقرر منار التربية الإسلامية في إطار علاقة الإيمان بالفلسفة، فهذا الأخير حين سئل عمن يشتغل بالمنطق والفلسفة، أجاب قائلا:

” الفلسفة أس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال ومثار الزيغ والزندقة، ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المؤيدة بالبراهين”.

إن موقف “ابن صلاح” هذا نابع من عقدتين : أ-عـقدة الخــوف مــن فقـــدان الهــــوية الثقافية. ب-وعقدة التعالي المرضي والشعور بالتفوق الوهمي على الثقافات والشعوب الأخرى.

إن هذا الموقف لا إنساني ولا أخلاقي ومتطرف ولاعقلي مصدره القلق على الهوية ورفض الحق في الاختلاف، ومعاداة التربية على حقوق الإنسان وإذا كان من خصائص اتجاه “الغزالي” و”ابن تيمية” القول بأنه كلما ابتعدنا عن العلم إلا واقتربنا من الإيمان والدين فإن “ابن صلاح” وظف من قبل مقرر منار التربية الإسلامية في اتجاه القول بأنه كلما ابتعدنا عن الفلسفة إلا واقتربنا من الإيمان والدين ويظهر هذا بوضوح في النعوت التي نعت بها “ابن صلاح” الفلسفة حيث سفهها واعتبرها جوهر الانحطاط ومخالفة الإسلام.

ها نحن نلاحظ كيف يعيد التاريخ نفسه ولكن هذه المرة بشكل كاريكاتوري. لهذا ينبغي أن نذكر من هو في حاجة إلى التذكير أن اتجاها فكريا ما لا ينتشر ولايترسخ إلا إذا كان هناك قرار سياسي يحوله إلى فعل تربوي وثقافي، ففي لحظة الشيخين “الغزالي” و”ابن تيمية” فالتيار الذي أبعد العلم بصفة نهائية عن الدين هو تيار الحركة الوهابية التي تدعو للرجوع إلى الإسلام في صفائه ونقائه. وها هو هذا التيار يبعث من جديد من خـــلال شخصية “ابن الصلاح الشهرزوري” الذي سيبعد بصفة نهائية الإيمان عن الفلسفة وسيقف ضد ربط الجسور بين التربية الإسلامية والفلسفة وسيثير مخاوف أساتذة الفلسفة على الفلسفة من جهة ومن جهة ثانية على الإنسان والمجتمع والوطن.

لكن أليس الابتعاد عن الفلسفة هو ابتعاد عن الإيمان والدين ؟ أليس حماية الفلسفة هو في نفس الوقت محاولة لعقلنة الايمان والدين وخلق مؤمن يفكر في دينه ويعقلن إيمانه لا مؤمن محافظ وتقليديوي؟ إنه آن الآوان لتعي المدرسة المغربية والمسؤولين عنها أن الفلسفة ضرورية للقيام بتأويل يقيني يضمن بلوغ الفهم الحقيقي والصحيح للدين بدل التفكير في تضييق الخناق عليها وعزلها أو إقالتها، لأن من يعارض الفلسفة انطلاقا من الإيمان والدين إنما يكشف عن جهله بالفلسفة وجهله بالتالي بالدين الذي يؤمن به.

على المدرسة المغربية أن تنهج طرق الحداثة وذلك من خلال إشاعة التربية على حقوق الإنسان والقيم وإزاحة كل المعيقات الموروثة عن سلبيات الماضي، وتجاوز النظرة الماضوية بنظرة مستقبلية. فالحداثة تتضمن انفتاحا على مستقبل غير مغلق وبلا نهاية يتميز بإمكانية تحقيق التقدم المادي والاستقرار الاجتماعي والتحقق الذاتي.

على المدرسة المغربية أن تنهج طريق الكونية لتكون بذلك هويتنا الثقافية تركيبا للحضارات السابقة. فالآخر ضروري لإدراك ذواتنا وديننا الذي يشكل هذه الذات، فلا يمكن أن نرى عيوبنا إلا بعيون الآخرين، فالموقف الذي يجب أن نتخذه من الآخر الذي يخالفنا الاعتقاد ليس هو موقف العداء والتكفير والاقصاء والتهميش بل موقف الاعتراف والحوار والاحترام والتسامح، بحيث ينبغي احترام حقوق الغير وفي مقدمتها حق الغير في الاختلاف، نحن مدعوون إلى مراجعة علاقتنا بالآخر بتحويلها من الجانب السلبي إلى الجانب الإيجابي وبالتخلص من عقدة الخوف من كل ما هو مختلف حتى تكتمل إنسانيتنا، نحن مدعوون لمواجهة ذواتنا لا الهروب من هذه المواجهة، لأنه حينما نواجه ذواتنا، فإننا نعثر على وجهنا الخفي الذي حاصرناه بالأقنعة الاجتماعية والأخلاقية.

لكل هذه الأسباب لا يجب أن ندم الاختلاف. فالمؤسسات التي ترفض الاختلاف إنما تجلس فوق بركان قد ينفجر في أي لحظة على حد تعبير الأستاذ محمد بوبكري. إنه لا يمكن أن يكون هناك استقرار في المجتمع ما لم يتم السماح لكل الاتجاهات بالتعبير عن نفسها بحرية، فلابد أن يكون الناس مختلفين وهذا حقهم وإلا كنا أمام مجتمع القطيع والنسخ المتشابهة.

فالاختلاف ظاهرة صحية وعامل أساسي للتقدم الحضاري، فنحن اليوم في أمس الحاجة إلى مدرسة تحدث قطيعة مع العقليات المحافظة والبنيات التقليدية التي تعيد فبركة وإنتاج الجمود والتطرف والفكر الظلامي الذي يهدد بموت الإنسان والمجتمع والوطن. فالفلسفة التي يعتبرها “ابن صلاح” جوهر الانحطاط هي محراب نتعلم فيه كيف نتجاوز الاعتقادات الباطلة، ولهذا فبدل دم الفلسفة ونعتها بالزندقة وجب مدحها لأن في مدحها مدح للإنسان.

يمكن أن نخلص في النهاية إلى القول بأن تاريخ العلاقة بين الدين والفلسفة هو تاريخ التوظيف السياسي لهذه العلاقة، أي أن الدولة تقحم هذه العلاقة في حقل الصراع السياسي والاجتماعي وعلى الخصوص في مواجهة أزماتها السياسية. فالاعتقاد بأن المدرسة المغربية محايدة اعتقاد واهم، فما وقع لابن رشد مثلا هو ناتج عن أزمة سياسية وليس عن تناقض فعلي بين الدين والفلسفة فالواقع السياسي للدولة الموحدية الذي عاش فيه ابن رشد هو الذي يفسر إقصاءه كفيلسوف يحمل مشروعا عقلانيا وحداثيا، فالخليفة الموحدي اضطر للتقرب من الفقهاء على حساب ابن رشد وذلك في خضم الأزمة السياسية التي كادت تعصف بخلافته.

فهذه الواقعة الرشدية تدفعنا إلى استنتاج أساسي وهو أن النظام السياسي المغربي يوظف هو بدوره علاقة الدين بالفلسفة في تعاطيه مع أزماته السياسية وإلا كيف نفسر لجوء الدولة المفاجئ إلى فتح أبواب الفلسفة أمام جميع الشعب وتقليص حصص مادة التربية الإسلامية وذلك على إثر ما شهده المغرب من تنامي مظاهر التدين بالمجتمع ؟ وهل يمكن القول بأن التضييق اليوم على الفلسفة من خلال كتاب منار التربية الإسلامية هو عودة من جديد للتدين مادامت الفلسفة تقود إلى الزندقة والكفر؟ ألا يلعب هذا الكتاب المقرر إبعاد المسلمين عن الفلسفة بما فيهم الفلاسفة المسلمين كابن رشد – الفارابي- ابن سينا الخ ودفعهم إلى التخلي عنها بنفس الطريقة التي أبعد الغزالي وابن تيمية المسلمين عن العلم بما فيه العلوم العربية كالرياضيات مثلا ؟.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى