عندما سأل أستاذ تلاميذه عن الفرق بين الديمقراطية والديكتاتورية ، انبرى طالب من وسط مقاعد مدرج الكلية ليجيب عن السؤال الطبيعي بجواب غير طبيعي حيث قال : “الديمقراطية توأم الديكتاتورية “، فاستغرب الطلبة من الجواب الحامل لهذا الكم من التناقض ، واستداروا نحو هذا المجيب الغريب ، في حين قام الأستاذ من مكانه ، وهو يسمع جوابا يهدم كل النظريات العلمية ، وطالب الأستاذ من طالبه توضيح قصده بوجود توأمة بين الديمقراطية والديكتاتورية ، فأفصح الطالب القول بكون الديمقراطية يتم ممارستها بشكل ديكتاتوري ، والديكتاتورية يتم ممارستها بشكل ديمقراطي ، فالحاكم يمهد لتسلطه ببعض الرتوشات التي تبدو في ظاهرها ضربا من ضروب الديمقراطية ، مما يجعل صنفين من الشعب يبلعان الطعم ويقبلان باللعبة ، صنف من الدهماء الرعاع أراهم مثل الحمير المستنفرة او قطعان الجواميس السمينة ، وصنف من قطيع الثعالب الانتهازية والمصلحية يكونون شركاء في لعبة قذرة لهم فيها مصالح ومآرب ، فأما الصنف الاول فقوته في أعداده الضخمة ، وأما الصنف الثاني فقوته في ثرواته وأمواله وما يملكه من وسائل التأثير من إعلام ونفوذ و ورساميل ، وأضاف الطالب الذي شد إليه الأنظار بدهشة ، أن النظام الديكتاتوري المكشوف انقرض واندثر تماما كما وقع للديناصورات ، والسبب بحسبه راجع الى أن وصفة الديكتاتورية بمفردها هو انتحار سياسي ، لأن قطيع الحمير المستنفرة أو الجواميس السمينة قد تتعب من تحمل لسعات السياط ، وحمل الاثقال ، فتثور وتهيج وتعري على الصفائح والأسنان والقرون، ولا يسمع لها سوى العض والركل وهي تثير النقع ، وزاد الطالب أنه ولكي يستمر الديكتاتوريون في الحياة ويجابهون الانقراض ، سعوا الى تغيير الخلطة الكيميائية للوصفة ، وبدل الاعتماد على النهج الديكتاتوري الجاف القائم على الشمولية والحكم المطلق وتجميع السلطات في يد نظام متشعب برأس واحد ، فقد تم إخضاع وصفة الديكتاتورية إلى تعديل كيميائي ، عن طريق زرع بعض هرمونات الديمقراطية في خلايا الديكتاتورية ، وكانت النتيجة مدهشة وفعالة ، اختراع نظام سياسي بوجهين خفيين “دوبل فاص” ، أحدهما ديمقراطية يحكم فيه الشعب نفسه بنفسه ، وثانيهما ديكتاتوري يلعب فيه الشعب دور المتفرج على ما يعده له النظام من وجبات سياسية .
ثارت ثائرة الطلبة وهم يسمعون من زميلهم تلك الهلوسات ، فتساءلوا : كيف يمكن وصف نظام بانه ديكتاتوري رغم وجود تعددية حزبية ، ووجود دستور محدد للاختصاصات والمهام ، ووجود نظام اقتراع تكون فيه الكلمة العليا لإرادة الشعب …؟ ابتسم الطالب ابتسامة منشرحة تعطي الانطباع أن الجواب يكمن في السؤال نفسه ، وقال : فأما الأحزاب على تعددها ، والدساتير على تنوعها ، والحديث عن فصل السلط وتحديد المسؤوليات و الإرادة الشعبية ، فهذه هي هرمونات الديمقراطية التي تم زرعها في خلايا الديكتاتورية لتنمو وتستمر ، وسأشرح فرجاء اتركوني أكمل فكرتي ، الأنظمة الديكتاتورية ولإبعاد شبهة الديكتاتورية عنها تحض على تأسيس الأحزاب وتمنع الحزب الوحيد ،لكن تلك الأحزاب المتعددة ، هي لا تعدو ان تكون انعكاسا لإرادة النظام الديكتاتوري وليست انعكاسا لإرادة الشعب ، فهذه الأحزاب هي تجمعات من الانتهازيين والوصوليين والمنتفعين ، تم تجميعهم داخل تلك الأحزاب على أسس مصلحية أو عرقية أو عائلية ، لتحقيق مصالحهم الشخصية الضيقة ، مقابل التوقيع على بياض للنظام ، والنظام هو من يسمي الحزب ، ويسمي رئيسه ، ويحرر بياناته وبلاغاته ، ويكتب جدول أعماله ،وهو من يتدخل ليدفع بقضاته الى الحكم بحل هذا الحزب ، أو يتدخل لشق صفوف الحزب المغضوب عليه ، ممن قفزوا من “الزريبة “، فكل تلك الأحزاب على تعددها إنما تصنع تحت أعين النظام ، وهي في حقيقتها مجرد حزب واحد تحت سلهام النظام ، وأما الدساتير فعلى تعددها وتعديلاتها ونسخها فهي دساتير جوفاء ، ويكفي الاستدلال على ذلك بالقول أن رؤوس النظام الحاكم هي أكبر من الدساتير نفسها ، فما جدوى دستور لا يعلو فوق الجميع ؟ ، وأما فصل السلط فتلك شعارات للاستهلاك ، فالبرلمان ( السلطة التشريعية ) هو من ينصب الحكومة (السلطة التنفيذية ) ، والقضاء (السلطة القضائية) يمنع عليه توجيه أحكامه ضد الإدارات العمومية ( السلطة التنفيذية) رغم تسلطها وجبروتها ، وأما الانتخابات فهي لا تعدو ان تكون استطلاعات للرأي يقوم بها النظام الديكتاتوري ليعرف من خلالها توجهات الشعب ، فالنظام يقدم للشعب من خلال الانتخابات نماذج متعددة من برامج متشابهة تقودها أحزاب تكاد تشكل نسخة واحدة متعددة الصور ، والشعب المتلقي في النظام الديكتاتوري يشترط فيه ان يكون جاهلا ، جشعا ، طماعا وجبانا ، ليكتمل المشهد السخيف ، وفي الوقت الذي يشرع فيه الشعب في تعداد ما أسفرت عنه إرادته ، يكون النظام يقيم نتائج و حصيلة سنوات تربيته وتكوينه للشعب الذي يحكمه ، وما حققته برامج التعليم و برامج الإعلام الرسمي في توجيه الحشود نحو النتائج المرجوة ، فإن صدقت الرؤية وفازت الأحزاب التي باركها النظام فقد قضي الأمر ، وإن حدث و زاغ الشعب عن سكة النظام وصوت لفائدة من لم يكن في الحسبان وجب تغيير القبعة من ديمقراطية انحرفت عن “الأهداف العليا للوطن ” الى ديكتاتورية صار تدخلها واجبا و مستعجلا لإنقاذ النظام من عبث الشعب وصناديقه ، وشتان بين شعب يشكل قوة ضغط رهيبة مبنية على الوعي والعلم والمعرفة وسيل من المبادئ ، وبين حشود من الناس يتجمعون فيما بينهم في ما يشبه السوق الأسبوعي بإحدى الضواحي ، لا يفرقون بين الحق والصدقة .
سكت الطالب ليستجمع أنفاسه ويواصل تفسيره ، فقاطعه الأستاذ بسؤال ، هل تتحدث عن نظرية علمية في علم السياسة ، أم تتحدث عن وجهة نظر شخصية ؟ فأجاب الطالب : هذا ما يحدث في بلدي ….هذا ما يحدث في بلدي ، واستدار الطلبة يبحثون عن جنسية زميلهم وبلده .