إنما شفاء العي السؤال …!!!؟ ( أخطاء الجلسات التربوية للحركة )

كنت في ضيافة لدكتور في الفلسفة ؛ وهو مربي فاضل وقيدوم ومن مؤسسي الحركة الإسلامية ، على مائدة شاي بأحد مقاهي مدينتنا القديمة الصاخبة ، وهو رجل هادئ يكاد أن يكون صوفيا في سمته وورعه ، وابتسامته التي لا تفارق محياه ، وقد رزقه الله بالإناث البنات ، أغلبهن يسر الله لهن مسار حياتهن الحسن والمميز ، وبقيت معه الصغيرة الدلوعة ، وقد عاش أفراد أسرته في وسط الحركة والعمل الاسلامي الشامل ، بين الفعل الدعوي والشبيبي والسياسي والنسائي مساهمة ونضالا والتزاما وتفاعلا وتأطيرا ومسؤولية .
وبينما نتحدث على جنبات الفكر والتربية والكتابة ، وبين التصويب والتوجيه ، وبين الإستفسار والإستبصار ، راح بنا الحديث على الفن وخاصة الغناء والموسيقى ، وأعرف أن صغيرته ؛ آخر العنقود مولوعة ؛ شغوفة بفن الطرب الأندلسي التراثي ، تدرسه في أحد معاهد البيضاء ، وتتقنه وتبدع فيه ، كما أن الفتاة متفوقة ، وتدرس الهندسة المعمارية ، بمدينة الرباط ، وعند نهاية الأسبوع ؛ تأتي إلى بيت والديها ، ولا تنسى برنامجها الإعتيادي ؛ وهي الجلسة التربوية التي تجلس الفتاة مع شلة من قريناتها للتهذيب النفسي والتأطير السلوكي ، وهذا ديدن معتاد عند أبناء الحركة ، ثم الذهاب الى المعهد الموسيقي في اليوم الموالي للقائها بصُحَيباتها والقيام بالتمارين الموسيقية ، والإنشاد الجماعي الطربي من مواويل وموشحات ، كما هو معتاد لها ، إلا أن الأب الحركي قال لي ؛ قد نفرت وتوقفت على الذهاب للجلسات التربوية ، حينما أرادت مسؤولة الجلسة التربوية ومن معها ؛ توجيه الفتاة وضبطها للانقطاع ؛ نهائيا على ذهابها الى المعهد الموسيقي والإستغناء على الطرب ، وتوديعه بدعوى أنه حرام ، لكن الفتاة ألغت الجلسة التربوية ولم تمنع نفسها من الموسيقى والغناء وفضلت الإستمرار في رغبتها الطربية ، وإني أقدر وأحيي هذه الفتاة الصغيرة على قناعتها بالتفضيل والإختيار ، كما أنوه بالدور الأبوي على تقدير الفتاة وحسن الإصغاء ، وتمكينها الفصل في القرار ومساندتها ، واظن جازما ان الفتاة لا تحتاج لتلك الجلسات التربوية ، لما لها من مؤهلات ، ولما لأسرتها من كفاءات ، بل قد تعود ضرارا لا نفع فيها ….
وقد تذكرت حادثة وقعت في عهد النبوة اذ كان بعض الصحابة في سفر ، فَأَصَيب رَجُل مِنهم فِي رَأْسِهِ ، ثُمَّ احْتَلَمَ ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ ، فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ ؟ فَقَالُوا : مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ ، فَاغْتَسَلَ ، فَمَاتَ. فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ: قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ …
إن الجهل داء ، شفاؤه السؤال ، والتعلم…!!!
إن مثل هذه التصرفات المقيتة ، والأفعال المتشددة والسلوك المتطرف والمنفر ، توحي أن بعض مسؤولات الجلسات التربوية جاهلات ، لايفقهن في دين الله وشريعته ، وهو سقوط في خرم الأخلاق ، مثل الوقوع في الخداع والكذب ، والتشبت بأهذاب الهوى والمزاجية اللاعلمية ، وهي عصبية واهية ومنخورة ، وان هذه نقائص تفسد العمل الإسلامي والمشروع الدعوي ، إن اشكالية فقه التدين ؛ عند بعضهن جد سطحية ، يخاطبن العامة كأنهم العالمات الصفيات والوصيات ، وهذا لعمري هو المحبط والمفسد في التوجيه التربوي لأبناء الحركة ، إن بعضهن مصابة بتديّن الشكل ، لا تديّن الموضوع ، والدّين عندما يتحوّل إلى طقوس ومراسم ؛ يفقد قيمته ، لأن الدين قبل كل شيء قلب حي ، وضمير يقظ ، وسريرة نظيفة ، إن الجهل في حقيقته وثنية ، لا يغرس أفكاراً ، بل ينصب أصناماً ، ويحتاج الى السدنة ؛ كي تربي المريدين ؛ وتحشدهم استقطابا ، وهذا هو شأن الجاهلية ، ومشكلة معظمنا أننا نفضل أن يدمرنا المديح على أن ينقدنا الإنتقاد ، إن ملأى السنابل تنحني بتواضع ، والفارغات إليهن شوامخ ،
إن هذا النوع من التدين الجاهل مقلد يجافي العلم ، ويخاصم الفكر ، ويرفض عقد صلح شريف مع الحياة ، هو تدين فقد صلاحيته ؛
إن هذه التصرفات المشينة ؛ إلهاء وإنشغال بقضايا جزئية بما يصرف المربي عن حقيقة دينه وجوهره ، علما ان هناك متعصبون من ذوى القلوب الطيبة ، متخصصون فى إثارة الخلافات ، وشحن القلوب بالغضب من أجلها ، وصيد سهل لأعداء الدين ، وينبغى تفتيح أعيننا على مغبة سلوكهم حتى لا ينكبوا دينهم وأمتهم ، وتوجد قوى ضارة وحاقدة ، تعين على إثارة الخلاف حتى تنتكس أدوار الحركة ٬ وتبقى متدحرجة في الجزئيات ، وتعيش في عالم الفناء والتلاشى ،
ولعل هذه المربية – وأمثالها كثير- لم تستسغ المنهج النبوي الذي يدعو للتبشير والتيسير ، والبغض والبعد من التنفير والتعسير ، إذ نحن مأمورون بمنهجنا أن نُيسِّر ، ومنهيون أن نُعسِّر ، فكل من شدَّد على المسلمين ، وعسر عليهم دين الله ، وضيَّق عليهم ما وسَّع الله عليهم ؛ فهو مخالفٌ للمنهج القرآني ومخالفٌ للمنهج النبوي ، لأن التبشير والتيسير منهج قرأني فريد أوصى به رسول الله معاذ في دعوته ؛ “يسرا ولا تعسرا ، وبشرا ولا تنفرا ، وتطاوعا ولا تختلفا ” وهذه الافعال القبيحة والناقصة ؛ مدعاة للاصطدام سلبا مع منهج الوسطية والإعتدال .
وأقل ما ينبغي إدراكه في مسألة الغناء والمعازف ؛ ليس مما فصل الله تحريمه وبيانه ، وأن دعوى تحريم الإسلام للغناء مطلقا ، ماهو إلا تنفير وتعسير في عصر ، هو أحوج ما تكون فيه الدعوة الاسلامية إلى التبشير والتييسر ، وإعلام الناس بما في الدين من فسحة وسماحة ، ومن زعم الحرمة فهو المطالب بالدليل الصحيح الصريح من كتاب الله ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو غير متوفر ، ويبقى لكل قناعاته واختياراته ، ولا يحاول المربي الناجح الوسطي الإنتصار في كل الاختلافات لقناعته ، فدوره ” كسب القلوب” وهي أولى من ” كسب المواقف ” .
ولا تهدم جسور فقه الأولويات التي بنيت ، نعم الأجدر كره “الخطأ” دائمًا ، والأنفع أن لا تكره ” المُخطئ ”
وأن تبغض بكل قلبك “المعصية ” لكن سامح وارحم “العاصي”
وهذه من أوصاف الخالق رب العالمين وألطافه
وننتقد “القول” لكن نحترم “القائل والمخالف”
فإن مهام المربي ووظيفته هي محاربة “المرض”
لا قتل ” المريض” ، وبه تسمو أخلاقنا وترتقي ،
كن أنسانا قبل ان تكون ، متدينا فلا معنى للدين
دون إنسانية. فالأمة عرفت رسول الله بالخلق ؛ قبل أن تعرفه بالنبوة ؛ كمن يحرث الأرض دون أن ينثر البذور
سئل حكيم أي انواع الموسيقى حراما ، قال ؛ صوت المعالق في صحون الأغنياء ، عندما ترن في أذن وأسماع الفقراء