الرأي

قراءة في قضية حامي الدين : لماذا 369 وليس 4 أو 126 ؟

محمد الشمسي
بعيدا عن كل غضب أو توتر أو تراشق بالنعوت والصفات ، اطلعت على قرار قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف بفاس القاضي بإحالة حامي الدين على غرفة الجنايات بتهمة القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد ، وأردت التعليق عليه مساهمة مني في إغناء النقاش المحتدم ، الذي خرج في بعض منعرجاته عن روح الجدال المفيد ، ودخل خانة عصبية ظننا أنفسنا وأدناها إلى الأبد .
وقبل الغوص في السجال ، أود أن استعرض الواقعة بعجالة ، ففي سنة 1993 وقعت جريمة قتل ذهب ضحيتها طالب جامعي بفاس ، أسفرت التحريات عن اعتقال اثنين من المتهمين ، وهما حامي الدين وشخص ثان ، تمت متابعة المتهمين سنتها بجناية القتل مع سبق الإصرار والترصد ، لكن غرفة الجنايات أعادت تكييف وصف الجريمة وحصرته في المساهمة في مشاجرة أودت إلى وفاة ، و أدين المتهمان بسنتين سجنا نافذا لكل واحد منهما ، وقضى المتهمان عقوبتهما وغادرا السجن .
لم تستسلم أسرة الطالب القتيل ، وفي سنة 2009 توصل قاضي التحقيق بشكاية حول نفس الجريمة لكن ضد متهم آخر ، فوقعت محاكمته وأدين بعشر سنوات ، وفي ذات السنة تم رفع شكاية جديدة ضد متهمين آخرين والكل من اجل جناية المساهمة في القتل العمد وقد تمت تبرئتهما من طرف الغرفتين الجنائيتين الابتدائية الاستئنافية لكن محكمة النقض نقضت القرار وأمرت بإعادة محاكمتهما ، وهما بصدد المثول أمام غرفة الجنايات بفاس من جديد.
والقاسم المشترك لكل تلك الشكايات المستحدثة والمحاكمات الجديدة هو وجود شاهد ، وهذا الشاهد لم يكن سوى ذلك المتهم الثاني الذي سبق وأن أدين مع حامي الدين بسنتين حبسا نافذا خلال سنة 1994 ، بمعنى أن هذا الشاهد المتهم ، الذي وقع الاستماع إليه أمام الضابطة القضائية وأمام النيابة العامة وأمام قاضي التحقيق وأمام غرفة الجنايات في أكثر من محضر ، هذا الشاهد عاد سنة 2009 و تذكر أنه لم يكمل شهادته على ما يبدو ، وتذكر وقائع جديدة تؤكد أنه يعرف القاتل الحقيقي ، وتسببت شهادته في إدانة متهم جديد بعشر سنوات سجنا نافذة ، ثم عاد ذات الشاهد ليقوم وسيلة إثبات من جديد ضد متهمين آخرين أشار على أنهما هما من قتلا الطالب الجامعي ، و برأت غرفة الجنايات بدرجتيها المتهمين ، قبل أن تنقض محكمة النقض القرار بالبراءة وتأمر بإعادة المحاكمة ، وفي معرض إدلاء ذلك الشاهد بشهادته ضد المتهمين ، وقع أن ذكر اسم حامي الدين وشهد أنه هو كذلك ساهم في قتل الطالب الجامعي ، وتم الاستناد على شهادة هذا الشاهد لرفع الشكاية ضد حامي الدين من جديد في 2017 وهي ذات الشهادة التي استند عليها قاضي التحقيق للقول بالأمر بإحالة حامي الدين على غرفة الجنايات بتهمة جناية المساهمة في القتل مع سبق الإصرار والترصد .
واستند قاضي التحقيق في الأمر بالإحالة على مقتضيات المادة 369 من ق م ج ، والثابت أنه لا مجال لإعمال مقتضيات هذه المادة في النازلة ، لأن المادة تتحدث بوضوح وبجلاء عن حالة ” كل متهم حكم ببراءته او بإعفائه ” ، والذي لا يمكن أن يتابع بعد ذلك من اجل نفس الوقائع ولو وصفت بوصف قانوني آخر ، في حين فإن حامي الدين غير محكوم عليه بالبراءة ولا بالإعفاء حتى يمكن تطبيق مقتضيات المادة 369 عليه ، ومعلوم أن القاضي الجزائي يجتهد في البحث عن البراءة ولا يجتهد في الإدانة ، ومعلوم أن القاضي الجنائي لا يتوسع في تفسير النص إلا لصالح المتهم وليس ضده ، وعليه فقد تم تحميل الفصل 369 ما لا يطيق من التفسير والتأويل ، فالفصل يتحدث عن “المحكوم عليه بالبراءة أو بالإعفاء فقط لا غير ” ، ولا يمكن نهج أو سلك مفهوم المخالفة ، لتقويل النص القانوني ما لم يقله ، فما دام الفصل 369 لا يتحدث عن المحكوم عليه بعقوبة أيا كانت مدتها ونوعيتها فلا مجال لاستدعاء هذا الفصل 369 في نازلة حامي الدين ، لان هذا الأخير غير محكوم عليه بالبراءة ولا بالإعفاء ، فهو أوتوماتيكيا غير معني بالمادة المذكورة ، والمشرع حين أورد الفصل 369 بتلك الصيغة لم يكن ليقصد بذلك السماح باستحضار مفهوم المخالفة من النص ، لان من شروط القانون الجزائي الوضوح المكاشفة ، وعدم ترك المتابعات أو الإدانات لعنصر الاستنتاج أو التأويل أو الفهم بالمخالفة ، مادام القانون الجزائي مرتبط بحرية الأشخاص ، ويكفي أن المشرع رتب البراءة على مجرد الشك ، بل وجعل الشك مدعاة للبراءة في قلب القانون نفسه .
وبعيدا عن المادة 369 المذكورة ، فبالعودة إلى المادة 4 من ق م ج ، فهي تنص على ” تسقط الدعوى العمومية ب…..وصدور مقرر اكتسب قوة الشيء المقضي به ….” وبالعودة إلى نازلة حامي الدين فهو حوكم في نفس النازلة وصدر في حقه حكم بات حائزا لقوة الشيء المقضي به ، وبالتالي تسقط كل دعوى عمومية يمكن أن تثار في وجهه بقوة القانون ، ثم إنه باستحضار المادة 126 من الدستور التي تنص على أن ” الأحكام النهائية الصادرة عن القضاء ملزمة للجميع”، فهذا مبدأ دستوري ملزم ، وحين تكون القاعدة الدستورية ملزمة فهي من النظام العام ، وهي لا تقبل التأخير في التطبيق ، تحت أي مبرر ، ثم إن كلا من الوكيل العام وقاضي التحقيق سبق وتلقيا شكايتين من أسرة المرحوم القتيل ضد حامي الدين ، واتخذا في حق الشكايتين قرارا بالحفظ لهذه العلة ، وكان يتعين ترسيخ انسجام القرارات القضائية وتوحيدها .
عموما ما وقع وقع ، وما كان كان ، ويبقى كل الأمل معقودا على هيئة المحكمة بغرفة الجنايات ، والتي لا يسارونا أدنى شك في تمرسها وكفاءتها ، و يبقى فقط وضع القضية فوق ميزان المحكمة بحكمة بعيدا عن خطابات التهويل ، ويكفي أننا في بداية مشوار استقلال قضائنا ، فلنأخذ بيده حتى يشتد ساعده مستقلا استقلالا فعليا ، لأنه لا جدوى من سن القوانين ما لم تجد تلك القوانين قضاء فعالا متحررا من كل ضغط داخلي وخارجي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى