الرأي

ألم ترى كيف فعل التاريخ باليسار…. ألم يجعله يتيما أضاع المسار ؟

محمد الشمسي

تتسم الأسرة اليسارية السياسية المغربية بتركيبتها المعقدة والمتداخلة والمتشنجة والمبهمة ، ولا ينافسها في غموضها و تعقيداتها سوى تركيبة الدماغ البشري ، فأصل اليسار المغربي يعود أساسا إلى رغبة المغاربة في إجلاء الاستعمار عن الوطن ، وهي مهمة تكلفت بها نخبة من المثقفين من منابع شتى ، منها المنبع اليساري ، الذي كان جزء كبير منه تقليديا ثوريا بالفطرة من غير مؤثرات خارجية ، وجزء آخر منه كان يمثل يسارا مغربيا مستوردا ومستحدثا من الحركات الماركسية اللينينية ، سواء من منظمة ” 23 مارس” أو منظمة “إلى الأمام ” ، وقد ضرب زلزال عنيف من الفكر اليساري الاشتراكي الحالم بالشيوعية بأسسها الفلسفية عددا من الدول ، في شكل انقلابات أو ثورات ، لكن الهزات اليسارية اصطدمت في المغرب بطبقة أرضية صلبة ، سواء على يد النظام الذي كان قد اعتنق الفكر الرأسمالي من جهة ، وبات يعتبر اليسار تسللا مكشوفا للقوى الشيوعية ، أو على مستوى الثقافة السائدة والمهيمنة على عقول المواطنين والتي ترفض رفضا قطعيا ملة اليسار القائمة على نفي عقيدة الخلق الإلهي للكون ، والإيمان بدلا عن ذلك بعقيدة ” لا إلاه والحياة المادة” ، لذلك توجست الجماهير من هذا اليسار ، الذي حمل شروط رفضه في ثنايا فلسفته ، والتي استغلها خصومه لتلطيخ ثوبه وسمعته في عيون الناس ، خاصة مع توظيف الرأسمالية الغربية إبان الحرب الباردة ، لعلماء من الدول العربية والإسلامية أفتوا بكفر اليسار واعتبروه ” رجسا” يريد صبغ المجتمعات بفكر إلحادي مادي ، ولم يشفع لليسار شعاراته الداعية إلى التوزيع العادل للثروة ، ووجوب الرجوع الى الجماهير لكسب الشرعية ، واستقلال السلط ، وغيرها من الخطب الرنانة ….
ولا نود أن نغرق في تاريخ اليسار المغربي وتاريخ تصدعاته وانشقاقاته ، والمواجهات التي خاضها والتي لبست ثوب التطاحنات في ساحات الجامعات والكليات ، بينه من جهة وبين خصومه ، حيث سالت دماء ، وزهقت أرواح من الفريقين ، ما يهمنا اليوم هو ما آلت إليه النسخة المتبقية من اليسار المغربي ، وما إذا كانت لا تزال تشكل صورة طبق الأصل من فلسفة اليسار الأم ، و ما عاشه من معاناة ، لاسيما مع انهيار حائط برلين ، وتفكك الاتحاد السوفياتي “حامي حمى الفكر الاشتراكي والشيوعي ” ليبقى اليسار مثل ” يتيم في العيد” .
يمكن القول بادئ دبي بدء أن كلا من حزبي الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ومعه حزب التقدم والاشتراكية لم يعودا “يساريين” كما كانا في مهد ولادتهما ، أو كما تزعم أوراقهما ومؤتمراتهما ، فالحزبان انسحبا من كوكبة “اليسار” و باتا “يأكلان باليمنى” ، بعد أن أثارتهما مفاتن الرأسمالية ، وكشفت لهما عن محاسنها ، فهاجا وانجرفا خلفها ، وقد باعا كتب ماركس ولينين وماو تسي تونغ وتروتسكي وصورهم ، وقدما ثمنها مهرا لتدلل الرأسمالية وتغنجها ، طمعا في حضنها ، تحت ضغط “تستوستيرون سياسي جارف لا يقاوم “، ولم يبق من اشتراكيتهما غير كلمتين بلا معنى في توصيات شكلية ، حيث امتلك ” عباد الاشتراكية والشيوعية ” من الرساميل و الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة ، وظهر فيهم أكثر من قارون ، ومارسوا كثيرا من ” ديكتاتورية البورجوازية” التي حمل كبيرهم كارل ماركس فأسه لتدميرها ذات سنة .
وأما ما تبقى من اليسار المغربي فهو منقسم على نفسه ، لا يعرف ما يريد بالتحديد ، فريق منهم عارض دستور 2011 ،وقال فيه ما لم يقله جرير في الفرزدق ، من أنه دستور ممنوح وأنه لا يعدو ان يكون استنساخا لسابقيه من الدساتير ، ومن أن المؤسسة الملكية لا تزال مسيطرة على الحياة السياسية ، ومن أن ….ومن أن….ثم قاطع انتخابات 2011 ، لكن هذا الفريق قرر المشاركة في انتخابات 2016 ، بنفس الدستور الذي سبق له الدعوة للتصويت ضده ، في موقف يخالف كل المعادلات الرياضية والسياسية ، كما يسجل التاريخ لهذا الفريق أنه بدوره حمل لوحته الخشبية وحاول الركوب على موجة 20 فبراير، حيث قدم لبعض “نجومها” المأوى والسند ، وروى عنها أكثر من حديث ، بجعجعة ورعد وكثير كلام ، لكن في يوم الامتحان حصل اليسار على مقعد برلماني واحد ووحيد ويتيم ، علما أن حزب اليسار الاشتراكي الموحد هو تجمع واتحاد لأربع “كائنات سياسية” أي أنه مثل “شامبوان 4 في 1 ” ، وقد يخفف الرفاق عن أنفسهم هول صدمة صناديق الاقتراع بالقول إن ” العيب في الشعب ، وأنهم وبرنامجهم أكبر من إدراك هذا الشعب “، كما يعاب على اليسار المغربي حمله مثل باقي التيارات ” لفيروس الذكورة” من جهة ، و”فيروس الإقامة الأبدية في مقصورة القيادة” ، ، فباستثناء السيدة نبيلة منيب فأمناء اليسار كلهم ذكور، وكلهم “سكنوا” في الأمانات العامة لأحزابهم ، إلى أن جاء “ملك الموت” ، أو بعث لهم ” مصيبة المرض” ، أو أصابهم “وباء الانشقاق” .
ثم هناك فريق ثان من اليسار لا يزال “غير مروض” وخارج ” الضيعة ” ، و لا زال يحلم بالقضاء على “الرأسمالية والإمبريالية ومقارعة الهيمنة الأمريكية ” ، وهو بذلك مثل “دون كيشوت ديلامانشا” يصارع طواحين الهواء ، و”يهتهت ” بالماركسية والشيوعية وفوز البروليتارية ” ، ويقول “لا” لكل ما يصدر عن الدولة وعن النظام وعن الحكومة ، ولا يريد أن يعرف أن دولة روسيا ” الراعي الرسمي لليسار” ، لم تعد تحمل لقب الاشتراكية في تسميتها الرسمية .
في المحصلة يبدو اليسار المغربي مثل جسم أجنبي في تركيبة الشعب ، ويظهر سوء الفهم الكبير بين الشعب واليسار على مستويات متعددة ، منها أن هذا اليسار موغل في الإيمان ببعض الحريات حد التطرف ، وهو في ذلك يعاكس ثقافة شعب محافظ ولم يستأنس بفكر الحريات ، فاليسار يتبنى الدفاع عن الحريات الفردية حد الغلو ، وحرية العقيدة مع الإفطار العلني في رمضان ، وحرية إقامة علاقات جنسية خارج مؤسسة الزواج ، ثم حرية “الشواذ جنسيا” في الكشف عن ميولاتهم ، مع توفير الأمن لهم ، وحمايتهم من مجتمع يراهم ” أهل فسوق يهزون عرش الرحمان خشية من غضب الله ” ، ثم إن هذا اليسار لا يقاسم الشعب خيار تدينه وإيمانه ، وينظر إلى الدين في عمومه على أنه ” أفيون الشعوب” ، ثم إن صنفا من هذا اليسار يقف في صف الفكر الانفصالي و لا يجد أهله حرجا في التحدث بلسان جوقتهم ، والدفاع عن حقهم في تنظيم المسيرات والوقفات الهادفة الى اقتطاع جزء من البلد ، كل هذا وغيره يجعل اليسار المغربي نبتة لم تنسجم مع تربة ومياه الشعب المغربي ، لذلك لا غرابة أنها وإن لم تمت فهي تذبل و تحتضر .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى