الرأي

بنكيران : سياسي أكبر من حزب

محمد الشمسي

يعتبر عبد الإله بنكيران ظاهرة من الظواهر السياسية التي لم يشهدها المغرب منذ تأسيس الدولة المغربية الحديثة ، فالرجل حطم كل الأرقام القياسية سلبا وإيجابا ، فهو الإسلامي الراديكالي الذي أعلن كفره ذات سنة بالدولة وبنظامها ، ثم هو الذي عاد ليتوب توبة نصوحا بعد ان اهتدى إلى اعوجاج منهجه ، فأدخله الخطيب رفقة إخوته وأخواته “دار أبي سفيان” آمنين ومؤمنين بالدولة ونظامها ومؤسساتها ، ثم أنه “دونكيشوت ديلامانشا” في محاربته لطواحين ” الفساد والتحكم ” ، حيث أطلق ويطلق صواريخ إعلامية وكلامية عميقة المدى ، تكبد ” من في بطونهم لعجينة ” خسائر في الأصوات والعتاد السياسي ، وحتى عندما هبت رياح الربيع العربي وهاجت الشعوب ضد أنظمتها الحاكمة ، وعجزت الآلات الأمنية ومعها العسكرية عن صد الحشود الشعبية الغاضبة ، لم تأخذ بنكيران الحماسة الزائدة ، ولم يركب بساطه ويطلع للجبل مطالبا بالقصاص أو الخلافة لنفسه ، بل قفز الرجل إلى الضفة حيث يقف الملك في أبهى تجسيد من الرجل لحب الوطن واجتناب الفتن، مطالبا بالتغيير والإصلاح تحت كنف الملك ، دون أن يفوت بنكيران قوة رياح ذلك الربيع لينسف بها قلاع خصوم سياسيين كشروا علانية عن أنيابهم لتمزيق الرجل وإخماد نور مصباحه ، وكان لبنكيران ما أراد حيث دك حصون الأعداء ، وحاز ثقة الملك و الشعب ، وتقدم للانتخابات فاكتسحها ، وكان رجلا في حجم حزب ، بل كان بنكيران أكبر من الحزب نفسه .

وأنشأ أول حكومة في تاريخ المغرب هو رئيس لها وليس وزيرا أولا في ظل دستور هو نتاج الارتجاج الشعبي ، وشرع بنكيران في الاشتغال من مقصورة القيادة ، دون أن يغفر لمعارضيه ، حيث ما فتئ “يبهدلهم” و يفرج الشعب فيهم ، وحشد بنكيران ملايين المغاربة لمتابعة أطوار مسلسل ” بنكيران … والأربعة وأربعين ….معارضا تحت قبة البرلمان ” ، وكان خصومه يجدون صعوبة قد تصل الى المستحيل لمقارعته أو النيل منه كما يفعل هو بهم ، خاصة أمام نظافة يده التي يشهد له بها الأعداء قبل الأصدقاء ، وانقضت ولاية بنكيران، وعاد في الانتخابات الموالية ليغزو صناديق الاقتراع في غزوة “التعاويدة ” ، عكس أخرى كانت تذهب من السلطة إلى المقبرة ، و يذكر التاريخ تلك المؤامرة التي خطط لها الأشباح وانبرى لتشخيصها “عزيز المخزن” ، ومعه ثلة من بقايا “المناضلين” ، ولو رضي بنكيران أن يكون “دوبلور” لأخنوش والأشباح من خلفه .

لكان رئيسا للحكومة مثنى وثلاثا ورباعا ، لكن قوة الرجل تكمن في ممارسته للسياسة بعفة وهامة وكبرياء وصدق ، فهو ليس مثل تلك القطط السمينة التي تتغذى تحت موائد السياسة ، هذا بغض النظر عن حصيلة الخمس سنوات من حكم بنكيران ، فهي حيز زمني لا يمكن معه تحقيق الكثير ، ومع ذلك وبعيدا عن لغة الأرقام فإن بنكيران وضع الحجر الأساس لتحبيب الناس والشباب عموما في الفعل السياسي ، وصارت خطب بنكيران لا تضاهيها أهمية سوى مباريات كبريات الديربيات الوطنية والعالمية ، ثم إن الرجل رمى بحجرة كبيرة في قلب بركة السياسة الراكدة لعقود ، ثم إن ما يشفع للرجل ، أنه كان مجرد قطعة غيار صغيرة في محرك معقد الصنع ، فيه قطع غيار خفية ، وأخرى معطلة ، وثالثة تجدب السير إلى الخلف ، ورابعة صنعت لمحو كل نجاح يحسب للرجل ، ويكفي أن الملك الحسن الثاني رحمه الله الذي حكم البلاد طولا وعرضا ، والكل تحت إمرته ولعقود ، لم يقو على إخراجها من نفق التخلف والهشاشة والفقر ، ومات مخلفا وراءه إرثا وعبئا ثقيلين .

غادر بنكيران ركح الحكومة ، وخرج من تمثيل الأمة تاركا أشباه السياسيين يمثلون عليها ، في مشهد لو تم فيه الرجوع إلى تقنية “الفار” لدى الفيفا ، لتم ضبط من دس الخروج في كأس بنكيران سنتها ، وخلفه طبيب نفساني يظهر مذعورا مرتجفا مخنوق الصوت وأصفر الوجه ، وكأنه تلميذ كسول ضبطه المعلم في حالة غش ، ظل طيف بنكيران يرعب خصومه ، وهو يقول ” واخا يمشي البوسطت يبقى لفانت ” ، فلا تزال لعنة التآمر عليه تطارد أفراد الكومندو الذي زرع الأشواك في طريق حكومته الثانية ، منهم من نفره الشعب وقاطعه و حاصره وتركه ينزف حسرة ومالا ، وجعله أضحوكة وسائل الإعلام في الشرق والغرب ، ومنهم من مات حيا وتحول إلى مومياء ، أو إلى فزاعة لا تخيف طيرا ، وآخرون اكتشفوا المقلب متأخرين فوجدوا “القالب” قد أخذ طريقه .

ويطل بنكيران في لقاء جمعه بشبيبة حزبه بالدار البيضاء في غشت حارق ليصدح بكلمة حق ، لم يقو أحد من ” أطلال السياسيين” على الصدح بها ، فالرجل لم يثن على خطاب الملك كما فعل أشباه أمناء الأحزاب المنافقين المتملقين الذين تراهم في كل واد يهيمون ، بل أجاب عن سؤال الملك بعفوية وصدق ، و قال بنكيران للملك ، “ينقصك رجال مخلصون يا جلالة الملك ” ، مخلصون للوطن ولضميرهم ولملكهم وللشعب ، مخلصون للقسم وللضمير وللواجب ، في نفوسهم حرقة وهم يرون المواطن عليلا بلا مشاف ، وأميا بلا مدارس ، وإطارا بلا عمل ، وإنسانا بلا حقوق ، مخلصون ينامون الليل إلا قليلا يضعون المخططات والخطط لقهر الفقر والجهل والجوع والعطش ، وليسوا حفنة من الغشاشين الفاسدين المرتزقة ، من “كروش لحرام ” و”مصاصي الدماء” ومحترفي النصب والاحتيال ، ينفخون أرصدتهم البنكية ، بعرق جبين الرعية ، وفي كل مرة يضبط الملك أحدهم مثل “طوبات الواد الحار” .

وتحدث بنكيران عن حاجة المغرب لملكيته التي لا يمكنه الاستمرار آمنا بدونها ، على أن تكون ملكية بمهام محددة ومؤطرة بنصوص الدستور ، ذلك هو بنكيران الذي نحن محضوضون كجيل عاصره وسمع خطبه وأجوبته وردوده ومستملحاته ، وسيكتبه التاريخ سياسيا جمع بين النقيضين بانسياب وانسجام وحب ، بين السياسة والصدق ونظافة اليد ، وهي شروط قلما تجتمع في جوف رجل واحد .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى