“مساخيط الوالدين ومساخيط المُدَرسِين”

محمد شمسي
يا له من مجتمع جاحد لا يشبع من الكذب على نفسه، مجتمع يهتز اهتزازا مزيفا لمشاهد الاعتداء على أسرة التعليم، وتراه يسنكر ويندد ويشجب، كما يفعل الأمناء العامون للأمم المتحدة وهم يعلقون على فظاعات الصهاينة ضد أطفال فلسطين وهي فظاعات قديمة جديدة ومتجددة، مجتمع يختلق حالة صدمته بواقعة الاعتداء على معلم أو أستاذة، والحال أن هؤلاء المعتدين هم أبناء هذا المجتمع، هم منه وإليه، فلم تكن ظاهرة اعتداء التلميذ على أستاذه جديدة على هذا المجتمع ، فهي قديمة قدم وجود كاتب هذه السطور ، فأذكر أنه وأنا في السنة الرابعة إعدادي سنة 1988 ، قام أستاذ الرياضيات بطرد أحد التلاميذ من القسم لاقترافه احدى الحماقات ، وما كان من التلميذ وكان بالمناسبة قوي البنية طويل القامة ومتقدما في السن ، إلا أن توعد الأستاذ وهدده ، وأشعره أنه سينتظره بباب المدرسة على الساعة السادسة مساء ، وكنا يومها على موعد رهيب حين هاجم التلميذ الأستاذ ، وكان الأستاذ بدوره شديد البأس والقوة ومستعدا للمواجهة ، وارتمى التلميذ على الأستاذ ، وتشابك الاثنان على مرأى من عيون التلاميذ الذين وجدوا أنفسهم مصدومين للواقعة ، انتهت المبارزة بين المعلم والتلميذ بلاغالب و لا مغلوب ، باستثناء بعض التورمات هنا وهناك في عنقي الطرفين ، وأذكر أني كنت يومها من حمل محفظة الاستاذ واحتفظت بها إلى أن أنهى عراكه ثم أعدتها له ، وهو سلوك جر علي وأنا في سن 15 سنة غضب الفئة المنحرفة من زملاء القسم من مؤيدي الفتى الأرعن .
ما لم يكن سنة 1988 هو هاتف ذكي بكاميرا يرصد ذلك المشهد البشع ، ومرت الواقعة كخلسة المختلس ، وتحولت الى مجرد حكاية يرويها الحاضر لمن غاب ، ويعيد الغائب روايتها على مزاجه ، يزيد وينقص ليضفي عليها إثارة تشد له المسامع ، لم ينتفض أحد حينها ، ولم يطرح سؤال في البرلمان ، بل لم يطرح سؤال حتى في ساحة الإعدادية ، ولم يصدر بلاغ من جمعية ولا نقابة ، وعاد أستاذنا في اليوم الموالي سالما ، وأعفى التلميذ الطائش الإدارة عناء الاجتماع والتشطيب عليه ، لأنه غادر المدرسة منذ يومها ، هكذا كنا في سنة 1988 ، وقبلها حضرت واقعة مماثلة في سنة 1984 حين كنا لا نزال تلاميذ في الابتدائي ، عندما هاجم زميلنا في القسم مرفوقا برهط من الأتباع معلمتنا الودودة وجلدوها بأحزمة سراويلهم ، والمسكينة وسطهم مثل فريسة يحاصرها قطيع ضباع .
في مجتمع يضرب فيه المراهق والشاب الأم والأب ، ومحاكمنا تعج بقضايا “العنف ضد الأصول ” وبالدارجة تعني ” مساخيط الوالدين ” في مجتمع لم يكتف فيه يافعون بالقول أف لوالديهم بل تعدوا ذلك الى ضربهم وصفعهم وتهديدهم ، ومنهم من يسلب والديه أموالهم ليقتني لنفسه مخدرات وعقاقير مهلوسة تزيد من حماقاته ، في مجتمع ينتظر فيه المراهق أو اليافع عودة والدته من العمل في المنازل ليستولي على عائدها اليومي بالقوة والعنف ، وفي مجتمع يعتقل فيه يافعون مراهقون آبائهم كرهائن ، يسمحون لهم بالخروج للعمل صباحا وينهبون رواتبهم ليلا ، أمع كل هذا نتباكى على الاعتداء على أستاذ أو أستاذة من طرف يافع أو مراهق ؟ ، هل صحيح أن فينا ومنا من يرى ويسمع هذا لأول مرة في حياته ؟ ، أعاد صاحبنا على التو من جزيرة الواقواق ؟ أم هبط من كوكب زحل ؟ ، ذلك جرحنا القديم تعفن وسال قيحه ، فهل نعاجله ب”التبوحيط” ؟ ، نحن نجني ثمار ما زرعناه ، جيل هجرناه وأسئنا تربيته ، هذا إن كنا نحن أصلا “مربين” التربية الصحيحة ، اليوم يعتدى على المعلم ، وقبله على الأم والأب ، وبعد ذلك على إمام المسجد وفي قلب المسجد .