التدبير المفوض خلاصة تجربة ميدانية

كثيرون هم أولئك الذين ينتقدون عملية ” التدبير المفوض” ويأخذون منها موقفا مسبقا دون أن يجشموا أنفسهم عناء الاطلاع على حقيقة المقاربة التطبيقية لهذا النوع من التدبير للخدمات الحضرية
و من منظوري الشخصي المتواضع، فان التدبير المفوض لا يمثل سوى آلية من مجموعة متعددة من الآليات الأخرى، و إن ما يفرض النقاش ليس هو التدبير المفوض في حد ذاته، و لكنها بالأحرى طريقة استعماله و طبيعة الإطار الذي يطبق داخله.
و لعل ما يمكن التأكيد عليه هو ان استمرار العمل بنظام التدبير المفوض عبر العالم، إنما يجد تفسيره و تبريره في استمرار وجود صعوبات هيكلية لدى الدول في توفير الوظائف الأساسية لضمان المصالح العامة. و في هذا الصدد، أتيحت لي شخصيا فرصة زيارة العديد من كبريات المدن من مختلف القارات، التي كانت قد لاءمت نظامها الخاص للتدبير المفوض، وفق طبيعة إكراهاتها الذاتية، و تمكنتُ من خلال هذه الزيارات من الخروج بقناعة مفادها أن التدبير الناجع للخدمات العمومية الحضرية لا يخضع لقاعدة عامة و لا لوصفة سحرية خاصة.
و الواقع ان الولايتين اللتين قضيتهما على رأس عمادة مدينة الدار البيضاء، مكنتاني من تعميق التفكير و التقويم، على مر السنوات، في مجموع الأنظمة المرتبطة بالتدبير المفوض للخدمات العمومية بهذه المدينة. و لا أخفيكم ان هذا التمرين الذي جعلني أواجه سيلا لا ينقطع من الصعوبات، تطلب مني قدرا كبيرا من الصبر، وحصة وافية من الواقعية و البرغماتية. لذلك أريد اليوم من خلال تجربتي و ما عايشته أن أساهم بكل تواضع، في تنوير إخواني المواطنين حول حقيقة الرهانات التي تطرحها قضية التدبير المفوض و الرهانات التي يجب ان ترفعها مختلف الفرق الجماعية؛
أولا: أن التدبير المفوض إنما هو طريقة مُسَرعة لانتشار المشاريع و الخدمات المهيكلة، في وقت تكون فيه مالية المدينة لا تسمح بذلك. و هذا الأمر لم يعد سرا على احد. و هذه الفكرة تبدو في غاية البساطة مادام الأمر يتعلق بتوظيف الإمكانيات الاستثمارية للقطاع الخاص. غير ان هذا الافتراض يجرنا الى وهم زائل سرعان ما تدركه الحقيقة و الواقع. فإلى غاية يومنا هذا يمكننا القول إننا لم نقم في مجال تدبير خدمات الماء و الكهرباء على وجه الخصوص، سوى بإنتاج المؤثرات العكسية. وكمثال على ذلك أقول إن مدينة الدار البيضاء كانت قد ارتكبت، في اعتقادي، من خلال العقد الأول المبرم في إطار التدبير المفوض والموقع سنة 1997، خطأ الخلط بين مفهوم الاستثمار و مفهوم الاستغلال. ذلك ان المدينة كانت قد منحت شكلا من الريع للجهة المفوض لها، ساهم في تعزيز الدور الاحتكاري لديها عوض حملها على التحفيز على القيام بالدور الاستثماري .
و غير خاف أن الاحتكار لا يشجع على الاستثمار. و كمثال على ذلك يمكنني أن استعرض هنا مسار المحارب الذي قطعتُه أنا و الفرق التي كانت تعمل إلى جانبي من اجل أن نزرع الحياة في مشروع محاربة الثلوت التي كانت تتعرض له شواطئ عين السبع.
هذا المشروع كان يشكل في نظري خطوة في غاية الأهمية. ذلك أن المواطنين كانوا في حاجة ماسة الى تملك هذه الفضاءات لتحويلها إلى أماكن صالحة للحياة الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية. ولم يكن من المقبول ولا من المسموح به أن يُترك احد الأماكن الأكثر كثافة في الدار البيضاء، بما يمثله من عدد في السكان يفوق المليونين، وامتداد على طول عشرين كيلومترا من الشواطئ، عرضة للتلوث.
فنجاح هذا المشروع كان نتيجة لجملة من الاستراتيجيات المتعاقبة والمتكاملة تتجدد باستمرار، وكان في مقابل ذلك جهة مفوض لها تلتزم بسلوك الإحجام عن الاستثمار، مُدلِيَة ً من اجل ذلك بتبريرات تراها قوية ومقنعة. وهكذا استطعنا من خلال بعث روح المنافسة والحوار أن نقلص تكلفة هذا المشروع الذي قدرت في البداية من طرف LYDEC بـ 2.8 مليار درهم إلى 1.3 مليار درهم. وغير خاف ما تطلبه هذا الانجاز، من عزيمة وتجنيذ للموارد وشبكات النفوذ و التأثير والاتصال على مختلف مستويات السلطات العمومية.
وقد أدركت شخصيا من خلال هذه التجربة أن المدينة أصبحت رهينة لما يتوفر عليه الطرف المفوض له من معلومات. فباستطاعة هذا الأخير أن يرى من مصلحته في بعض الأحيان أن يحجب تقديرات التكلفة التي يتوفر عليها، او أن يرفع من مقدار هذه التكلفة إن هو أراد الرفع من قيمة الريع المخصص له. وهنا نقف على وجه من أوجه المؤثرات الجانبية لقضية التدبير المفوض، ألا وهو ريع المعلومة Rente informationnelle .
ثانيا: من المعلوم أن الجهات المفوض لها، غالبا ما تتسلح بكفاءات ذات تخصصات قانونية تكون أعلى مستوى من تلك التي تتوفر عليها الجماعات المحلية، وهذا امر يؤسَفُ له غاية الأسف! فهذا الاختلال في التوازن بين الكفاءات يضع المقاولات في موضع قوة، يسمح لها بأن تتموقع في موقع مريح كلما تعلق الأمر بالتفاوض. وهذا ما دفعني الى الوقوف، منذ انتخابي كعمدة لمدينة الدار البيضاء سنة 2003، على حقيقة الصعوبة التي يمكن ان تعترض هذه المدينة في التعامل مع الجهة التي فوضت لها خدمات الماء والكهرباء، بحكم عقدة وقعت منذ سنة 1997، وتدوم ثلاثين سنة! هذا العقد الذي هو بمثابة عقد غير محدود، ساهم بشكل هيكلي في إحداث عدم التوازن في العلاقات بين المفوِض والجهة المفَوض لها، والواقع أن على المواطن أن يستفيد من حق النظر ومن حرية تغيير المفوض له حينما يتبين أن عمل هذا الأخير لم يعد موسوما بالنجاعة ولا بالتلاؤم مع متطلباته. ولعل هذا ما جعلني أبادر خلال ولايتي هذه إلى تصحيح هذا الاختلال القانوني، وذلك بإعادة النظر في العقود المرتبطة بالتدبير المفوض للخدمات المتعلقة بجمع النفايات ( والتي تقلصت مدتها من 10 سنوات إلى 07 سنوات) وخصوصا بالتفاوض حول عقد الاستغلال، والاستغلال وحده في إطار مشروع الترمواي. وقد حرصت على أن لا تتعدى مدة عقد الاستغلال هذا خمس سنوات
ثالثا واخيرا: فإن أحد الموضوعات الرئيسية في قضية التدبير المفوض، يرتكز على العلاقة التي تنشأ بين المدينة وبين المفوض له وبين المستفيد. وهنا لا أرى من فائدة في الرجوع إلى الأحداث التي وقعت في طنجة من جراء تعامل امانديس، ولكن يكفيني أن أقول أن تعدد المتدخلين يجعل عملية تدبير العلاقة مع المواطنين معقدة ومركبة إلى حد كبير. فالمواطنون لا يرتاحون لهذا النوع من الذَوبان الذي يطرأ على المسؤوليات بين المنتخبين وأعوان الجماعات المسؤولين وبين المفوض لهم، بحيث يصبح من العسير جدا رسم حدود فارقة بين هذا المواطن الذي تدبر شؤونَه مصالحُ المدينة ساعية إلى الحفاظ على القرب منه، في حين يسعى المتدخل الخصوصي إلى تحويل هذا المواطن المستفيد إلى مجرد زبون. لقد اختار المغرب ان يعتمد منهج تفويض الخدمات إلى مجموعات دولية غالبا ما تقدم خدماتها على امتداد سلسلة الخدمات الحضرية والتي تقودها بالتالي إلى القيام باختصاصات القوة العمومية، وهذا ما يجعلنا أمام حالة تصبح فيها الجهة المفوض لها في وضع التجاوز لبعض المبادئ المرتبطة بالمصلحة العامة، يساعدها على ذلك وضعها كطرف محتكر. ومن جهتهم
أيضا يسعى المنتخبون إلى استعمال المواطنين المستفيدين كأداة ضغط وتفاوض مع الجهات المفوض لها. ومن المؤسف أن يتم ذلك في اغلب الأحيان من اجل تحقيق أهداف سياسية دنيئة، لتظل المصلحة العامة في نهاية الأمر رهينة في أيدي عدد من المتدخلين لا تربطهم بالمواطن أي مسؤولية واضحة ومباشرة ومحددة.
وفي هذا الاتجاه سعيت شخصيا الى أن أجعل من نموذج شركات التنمية المحلية احد أهم المعارك التي قررت خوضها، وكانت غايتي من وراء ذلك أن أحقق هدفا واحدا ألا وهو النجاعة في الحكامة المحلية، علما مني أن خلق الهياكل المرنة والمطواعة والمتوفرة في نفس الوقت على الكفاءات واليات المراقبة القوية، من شأنها لا محالة، ان تكف المجموعات الدولية، عن بسط نفوذها على الخدمات المقدمة للمدينة، كما أن من شأنها أيضا أن تكبح تواتر حلقات اللعبة السياسية في المجالات المخصصة أصلا لتوفير الحياة الكريمة والرفاه والطمأنينة للمواطنين.
وأخيرا كان علينا أن نتعامل مع نقط القوة ونقط الضعف التي يشكلها نظام التدبير المفوض، وهو الأمر الذي جعلنا نستحضر دائما ان مصلحة المواطن لا يمكن ان تتحقق أو أن تضمن من خلال شن حرب دائمة ومستمرة بين عدوين مفترضين متمثلين في الجهة المفوٍضة والجهة المفوَض لها، ولكن من خلال التجربة المتراكمة ومن خلال تحكيم العقل ومن خلال مثابرة وصمود وتضحية الرجال.