الرأي

روتيني الديمقراطي

من الآثار الجانبية للحجر الصحي الذي عاشه المغربي بشكل مسؤول في بدايته قبل سنة اتساع رقعة مواقع التواصل الإجتماعي كمتنفس أو بديل لتعويض الحرية المفقودة و لو افتراضيا مع ظهور ثقافة اللايف التي تتغذى على ثقافة الصورة و الفيديو الذين يستمدان قوتهما من واقع مجتمع لا يقرأ، يتلذذ بتتبع الفضائح و المحتوى الفارغ الذي يعكس بصدق الفراغ الذي يعيشه المجتمع المغربي على كل الأصعدة، الشيء الذي ترك مساحة مخيفة في التنشئة الإجتماعية لكائنات غريبة تدعي التأثير تصنع قيما جديدة و معايير مختلفة للنجاح و أشكالا جديدة للفعل الإجتماعي، تشكل مجتمعة فضاء تأثير أقوى مما تمارسه أي نواة إجتماعية أخرى. بيد أن المفارقة المطروحة في هذا السياق هي: إلى أي حد يمكن المزاوجة بين حرية التعبير كلبنة أساسية للقفز نحو مجتمع الحداثة و الديمقراطية و التفاهة كشكل من أشكال حرية التعبير؟ و بأي معنى تكون التفاهة نظاما؟
لعل هذه اللحظة هي التي أكسبت كتاب “نظام التفاهة” للمفكر الكندي Alain Denault راهنيته لكونه يعكس جليا هذه المفارقات، فالتفاهة كمفهوم تحمل في تمثلنا معنى الفوضى و سوء التدبير، بيد أنها في المقابل نظام ممنهج يملك آلياته الخاصة في التأثير التي تدين بقوتها لزواج كاثوليكي بين التكنولوجيا و الرأسمالية مع كل بهارات الجهل الممكنة، حيث يبقى هامش استفادة الأنظمة السياسية من هذا النظام في اعتماده كمجس اجتماعي لقياس نبض المجتمعات و اتجاهاتها في الوعي و السلوك.
من سخرية القدر أن نعيش في نفس اليوم مشهدا يكرس هذه المفارقات بامتياز، تغطية إعلامية بألوان مختلفة بالصوت و الصورة لزيارة عائلية لزوج تافه في إطار روتين يومي لا علاقة له بالتأثير سواء في الفن أو السياسة أو الثقافة.. مقابل مشهد انتزاع ميكروفون من يد أستاذ من طرف رجل سلطة في مشهد مخزني سلطوي بائد قبل أن يلكزه باحتقار “تحرك”.
في قراءة سيميائية للمشهدين يمكن الوقوف على الاستنتاجات التالية: الاحتجاج و التفاهة مظهران من مظاهر حرية التعبير، لكنهما لا يتمتعان بنفس مساحة التعبير سواء افتراضيا أو واقعيا، أما انتزاع الميكروفون من يد الأستاذ فلا يحتمل قراءة أخرى غير القمع و مصادرة حرية التعبير، من جهة أخرى نسجل غياب الاحتجاج من الصحفي نفسه الذي لم يسجل أي تحفظ على اعتبار أن الأمر يمسه قبل كل شيء، و في ذلك اعتداء على حرية التعبير لا يقل بشاعة و رجعية عما تعرض له الأستاذ و يتعرض له الجسم الصحفي بصفة عامة، أما عبارة “تحرك” فتحمل مفارقة مفهومية من جهة، إذ أن التحرك عادة يأخذ صيغة التعالي على وضعية محددة من أجل وضعية أفضل، لكن واقع الحال يشير إلى تحرك نكوصي يفيد التراجع، و قيمية من جهة ثانية لكون التحرك يفيد التقدم، لكنه في هذا السياق يفيد التخلف على صعيد الحرية و العلم و حقوق الإنسان، الحرية لكوننا أمام مصادرة فعلية لحرية التعبير قابلة للملاحظة و القياس، و العلم لكون الأمر يتعلق بأستاذ، و حقوق الإنسان باعتبار الإطار العام للمشهد الذي يندرج ضمن ما هو حقوقي بامتياز، و هي الركائز الثلاث للقفز نحو مجتمع الحداثة و الديمقراطية، لكن واقع الحال يثبت أننا نتعامل مع هذه المداخل الديمقراطية بشكل مشوه كما يتعامل أبطال و بطلات روتيني اليومي مع عالم التواصل الاجتماعي كأنه روتين ديمقراطي يبرز فقط سوءتنا للعالم ليستمني علينا كيف يشاء.
و حتى لا نتناقض مع منطلقاتنا القائمة على تقديس حرية التعبير كقيمة إنسانية كونية مفارقة للممارسة السياسية النسبية و أهم مبادئ الديمقراطية الحديثة التي حذر فلاسفة الأنوار من ابتذالها، فليس بالسينيال نحارب التفاهة، بل ببناء مدرسة حديثة محل المدرسة القروسطوية، و تأسيس عقل علمي محل العقل الخرافي، و صناعة إنسان مفكر، يشك، يتساءل، يحلل، ينتقد محل الإنسان الوعاء، إنسان حر يقدس حرية التعبير متسلح بفكر نقدي، و ليس مجرد كائن حي، مستهلك ساذج أو آلة انتاجية في أحسن الأحوال، و حين نصنع هذا الإنسان ستنقرض التفاهة من تلقاء ذاتها، و لن يكون بمقدور أي شخص أن يصادرنا الميكروفون و ستتخذ عبارة “تحرك” معنى التقدم و التنمية عوض النهر و القمع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى