كم هو جميل ورائع، أن ينظر المغربي أو المتتبع الأجنبي إلى ظاهرة التضامن بين المواطنين المغاربة، أفراداً وجماعات ومؤسسات، بمجرد انقشاع سحب الهلع الأولى التي خلفها زلزال حوز مراكش والمناطق الأخرى التي طالها الدمار والخراب، ليتضح أن المغاربة يكنون لوطنهم وأبنائه حبا وثنياً، وكيف لا وسوادهم الأعظم يعتبرونه جزءاً لا يتجزّأ من دينهم، الذي يعتنقونه بشغف لا يخلو من مسحة صوفية روحانية تجعل الواحد منهم في مثل هذه المواقف يضع الآخرين قبل ذاته وأهله وبنيه، ما دام الآخرون في حاجة ماسة إلى عونه وسنده.
والواقع أن هذه الخصال المغربية المتأصلة والمتجذّرة أمكن للعالم كله أن يتعرّف عليها منذ تألق المغاربة في نهائيات كأس العالم لكرة القدم، التي أبدعت دولة قطر في إخراجها، من كل الجوانب بلا استثناء، فلمس العالم مدى تديّن المغاربة من خلال لاعبيه، الذين كانوا يعبّرون عن كل فرحة بالسجود لرب العزة حمداً وشكراً، والذين كانوا يولون أماهاتهم وآبائهم وأخواتهم وإخوتهم الذين حرصوا على اصطحابهم معهم إلى ذلك العرس الكروي العالمي كل الرعاية والعناية، وكذا الذي أبانوا عن روح رياضية مثالية، جعلت العالم كله يرى من خلالهم قواعد وأصول التربية المغربية، الجامعة والمزاوجة في آن واحد بين أصالة الروح، وعصرنة الذات والجسد في عراك تنافسي راقٍ أبلوا فيه بلاءً لن يُنسى لهم أبد الدهر، فكانوا أسُوداً سبّاقين في كل شيء!!!
إن تلك الروح الأصيلة نفسها، هي التي عاينها العالم وهو منبهر بحركات التضامن، مع ضحايا الزلزال، الطاغية والمتخطية لكل المقاييس، بدءاً بتوارد عشرات الآلاف من الهبات المحمولة بكل الوسائل المتاحة، وآلاف الشاحنات الثقيلة والمقطورات، ومروراً بالطوابير المليونية التي أبهرت العالم للمتبرعين بدمائهم لإنقاذ مواطنيهم الجرحى والمعطوبين، وتتويجاً بالزيارة التي أجراها جلالة الملك لمستشفيات حاضرة مراكش مواسيا المصابين ومستفسرا عن أحوالهم وعن مدى العناية التي متعتهم بها الأطقم الطبية والإدارية التي جنّدت نفسها من تلقاء ذاتها دونما أدنى حاجة إلى تدابير إدارية إلزامية، حتى أن كثيرين منهم تنازلوا عن عطلتهم السنوية فقطعوها مسرعين إلى مقرات عملهم حتى لا تفوتهم فرصة أداء هذا الواجب، الوطني بامتياز، وبصم الملك على ذلك بتبرعه هو الآخر بدمه أسوة بمواطنيه، فقدم بذلك قدوة تلهج بها ألسنة الكثيرين داخل المغرب وخارجه!!!
كل هذا جميل ورائع، ويحمل في ثناياه أرقى المعاني وأنفع الدروس والعِبَر لمن شاء أن يقدّم صالح الأعمال يخدم بها غيره ويتخذها قربى إلى ربه.
ولكن… ولأنه “حتى زين ما خطاتو لولة” كما يقول المثل المغربي الدارج، فقد طفت على سطح هذه الأحداث الجسيمة أخبار عن حالات شاذة كنا نتمنى أن لا نسمع لها حِسّاً في أتون هذه الكارثة بالذات، حيث ظهرت جرذان أشبه بتلك التي عرفتها كارثة زلزال الحسيمة، والتي أدت إلى اعتقالات بالجملة، ومحاكمات أيضاً بالجملة، وإلى رفع الستار عن جانب مظلم من بعض القيّمين، وبعض المنتخبين على الخصوص، ممّن لم يكونوا ليستطيعوا ترك الفرصة تمر من تحت أنوفهم دون أن يلطخوا المشهد بسرقات تافهة لا تستحق أن يبيعوا بها سمعتهم وكرامتهم المتردية أساساً إلى أسفل سافلين!!!
وعلى ذكر المنتخبين والأعوان المتورطين معهم، فهؤلاء ينتمون إلى أحزاب مختلفة، مما يطرح سؤالا عملاقاً عن مسؤولية الأحزاب عن ترشيحها أو قبول ترشيح أو تزكية نكرات لا يستحقون حتى إدارة شؤون بيوتهم، فبالأحرى أن تُسند إليهم مهام إدارة الشأن المحلي، لينتهي المطاف بعدد منهم غيرِ هيّنٍ إلى محاضر الضابطة القضائية وتقارير وقرارات النيابة العامة، والسبب؟ سرقة صناديق مياه معدنية وأَسِرَّة محمولة وأغطية موجهة أساساً لضحايا الكارثة…يعني منتهى التفاهة والدّونية!!!
مناسة التطرق إلى هذا الموضوع فيديوهان نُشرا يوم أمس الأربعاء على قناة اليوتيوب، يقدّم أحدهما شهادة حية لأحد النشطاء الجمعويين يلفت النظر فيها إلى نوع من التسيّب عاين مظاهره في مناطق جبلية نائية متضررة، فأكّد أن ما وصل إلى تلك المناطق من الإمدادات والمساعدات تخطى إلى حدود قصوى حجم الاحتياجات، مما أماط اللثام عن نوع من السفه والتبذير لا مبرر لهما، وكما قال الشاهد بعظمة لسانه، إنه رأى أناساً كثيرين يفتحون علب السردين أو التونة أو أي أكلة أخرى معلّبة فيتذوقونها ثم يلقون بها إلى الأرض كما هي، دون اكتراث لما سينجم عن ذلك من عفونة وتلوث للبيئة المحيطة، ومن أوبئة كل أهالي تلك الجبال في غنى عنها، لأنها ستزيد إلى عذابهم أشكالا أخرى لا قِبَلَ لهم بها من المعاناة، فضلاً عن كون ذلك سفهاً لا يليق إلا بالمعتوهين والصِّبْيَة غيرِ المكلّفين!!!
أما الفيديو الثاني، فعلى منوال ما سبق قوله عن بعض المنتخبين المحليين، حيث تضمن مشاهد لأحد البيوت القروية وقد اكتنزت حديقته أو ساحته الخلفية بأكياس يُفترض أنها تحمل مُؤَناً موجهة لضحايا الكارثة بالمنطقة ذاتها، ومن المنطقي واللازم أن يطرح المرء السؤال عما تفعله تلك الأكياس داخل بيت خاص أو في ساحته أو حديقته الخلفية، وحتى لو كانت الأكياس داخل بناية إدارية فإن ذلك لا يُعفي المسؤول عنها من المساءلة لأن المكان الطبيعي لتلك المؤن هو الساحة العمومية التي أُعِدَّتْ خِصّيصا ليتم من خلالها توجيه الإغاثات إلى طالبيها والمحتاجين إليها…
لقد أظهر المغاربة البسطاء للعالم قاطبة أنهم شعب التحديات، إزاء الأزمات، والكوارث، وقدموا في ظرف يومين اثنين، او ثلاثة، ما لم يشاهده العالم في أي رقعة أخرى من المعمور… فرجاءً أن يضرب المسؤولون بأيد من حديد صَلب على هذا النوع من غربان المآتم، فهؤلاء مكانهم ليس تحت سماء هذا الوطن الرائع، فمن باب أَوْلى أن يستقرون تحت أسقف السجون والمعتقلات، ولفترات حبس تَبْيَضّ فيها شعورهم وتطويهم خلالَها حُجُبُ النسيان!!!
_________
* إطار تربوي