هكذا تحدث خاشقجي عن المغرب وهكذا نتحدث عنه

محمد الشمسي
اغتيل جمال خاشقجي بطريقة بربرية همجية ، لم تخطر حتى على بال الشيطان ،الرجل دخل كأي مواطن إلى قنصلية بلده ليحصل على ورقة إدارية هي من حقه ، فإذا به يخرج من القنصلية جثة مقطعة ومجهولة المصير ، كان خاشقجي قد ذكر المغرب بخير في إحدى مقالاته الصحفية الصادرة في الصحافة الأمريكية ، حيث استرعى اهتمام جمال تصنيف المغرب إلى جانب الأردن والكويت في خانة ” دول حرة جزئيا” ، في حين استفردت الخضراء تونس بمرتبة “دولة حرة ” ، وما دون ذلك من قبائل العرب إنما تسير على منهج الحجاج بن يوسف الثقفي الذي كانت تستهويه لعبة اقتلاع ألسنة المعارضين وقتلهم بعد تعذيبهم بوحشية ، لذلك وجدت شخصيا أن استدلال جمال بالمغاربة كشعب “حر جزئيا” يفرض علي كمغربي أن أبرهن لروحه على تلك “الحرية الجزئية ” ، التي نثابر كمغاربة بثبات ونضال وطموح لاستجماع ما ينقصها من باقي الأجزاء فيكتمل جسدها .
بداية وجبت الإشارة إلى أن العالم العربي والإسلامي كان دوما يرى في المملكة العربية السعودية الأم الحنونة الحاضنة لقضايا الأمة ، وقد حكمها ملوك اتسموا بالحكمة وبعد النظر رغم غرقهم في القبلية والكفر بالتعددية ، و تجييش علمائهم للإفتاء بأن الديمقراطية هي رجس من عمل الشيطان وجب اجتنابها ، وأن عرض الملابس الداخلية للنساء في السوق علنا جريمة ، وأن المرأة لا تليق إلا لتفريخ الصغار ، وما لها بال بالسياسة ولا حتى بالسياقة ، لكن منذ عهد الملك عبد الله فاجأت المملكة العربية السعودية الشعوب المؤمنة بها بسلوكات هزت مكانة المملكة الروحية لدى المسلمين ، عاينا المملكة تقف في وجه ثورات شعوب أعياها القهر والتسلط ونهب خيراتها ، وكانت السعودية تأوي حكاما طردتهم شعوبهم ، ثم ترعى الانقلاب على الديمقراطية المصرية الفتية ، وعاينا المملكة تدعم مجازر العسكر المصري بالمال والقول ، وتصنف الشريحة المستضعفة من الشعب المصري في خانة الإرهاب تصفية لخلافات إيديولوجية قديمة ، ثم جاء الملك سلمان ليقلب هرم ولاية العهد من سلالة شقيقه إلى سلالته هو ، ويختار من أبنائه ” أطيشهم” ليوليه منصب ولي العهد ويسلمه مفاتيح البلد ، ويجعل منه صنما فوق القانون بل “إلها صغيرا مزيفا ” ، وتحولت المملكة إلى عربة تجرها خيول مسعورة ، وزاد من الحماسة الزائدة لولي العهد فوز التاجر والمقاول ترامب في الانتخابات الأمريكية وهو الشغوف بالمال والمستعد لبيع كل شيء من أجله ، فأعلن الأمير الحرب على الشعب اليمني الفقير بترسانة عسكرية متطورة وبدعم من عدد من الدول وبمباركة من “رب البيت الأبيض” ، وخسرها ضد جماعة تفتقد للهيكلة والتدريب العسكريين ، وزرع طلعات ولي العهد فوق اليمن مجاعة وبؤسا ، وكاد الأمير الصغير ان يغزو دولة قطر مكتفيا بحصارها ومحاصرتها وهو يرمي بها نحو الحضن الإيراني لكنها اكتفت بالحضن التركي ، ثم احتجز رئيس الوزراء اللبناني وأجبره على الاستقالة من السعودية ، ولم يخل سبيله إلا بعد تدخل ماكرون شخصيا ، ثم أمر بحملة اعتقالات في صفوف أمراء ورجال أعمال وحشرهم في فندق من خمس نجوم وشرع في ابتزازهم المال مقابل الحرية ، ثم شن حملة اعتقالات ضد المغردين والنشطاء وحتى الدعاة ، ثم كاد يغزو الكويت لولا فراسة أهلها الذين استجاروا بالأتراك لحمايتهم من جديد ، وختمها بالترصد لصحفي أعزل وأمر بقتله وفي قلب القنصلية السعودية في تركيا .
لم يكن جمال خاشقجي معارضا شرسا للنظام السعودي ينادي بإسقاطه ، أويحمل مشروعا بديلا له ، الرجل كان ضيفا مألوفا على عتبة الأسرة الحاكمة وأمرائها ، وهو كان الى حدود السنة ونصف الماضيتين واحدا من القطط السمينة التي ترقد تحت مائدة آل سعود وتتغذى منها ، لكن ارتداده على دين آل سعود وخروجه من المملكة نحو أمريكا ، وشروعه في تدبيج مقالات لا تنزل بردا ولا سلاما على ولي العهد وحاشيته ، ونشرها في الإعلام الأمريكي الذي كان الأمير يعول عليه في تقديمه للعالم مصلحا فاتحا مخلصا مجددا ، كل ذلك عجل بالتدبير والتقدير والتخطيط فالاستدراج فالاغتيال .
روايات النظام السعودي الثلاث للحادث ضعيفة ومتناقضة وغير منسجمة ولا متماسكة ، ولن يصدقها إلا صاحب مصلحة في تصديقها ، ليس لأننا نعرف الحقيقة ، بل لأن الحقيقة السعودية صارت حقائق بأوجه متعددة ، ولا ندري أيهما نصدق من روايات بلاد الحرمين الشريفين ، هل في كون جمال خرج سالما من القنصلية ولم يقتل حتى ؟ ، أم أن قطر وتركيا وحزب الله والإخوان المسلمين هم من أخفوا الصحفي لخلق الفتنة والمس بالمملكة ؟ أم في أنه مات فعلا في القنصلية بسبب شجار مع كومندو القتل؟ أم أنه مات خنقا بسبب محاولته الصراخ ؟ ، أم أن فريق الاغتيال تصرف من تلقاء نفسه دون الرجوع إلى قطب النظام فحجز طائرة خاصة وقصد دولة أخرى لمعالجة مشكل خاشقجي ؟ ، أم أن فريق القتل كان يرغب فقط في إقناع جمال بالرجوع الى بلده الأم ، وأنه في أسوأ الحالات كانت النية في اختطافه وليس في قتله ؟ ، وهل من المنطق أن يتوجه فريق من 15 مسؤولا مخابراتيا وعسكريا من أعلى المستويات للتفاوض مع صحفي وإقناعه بالرجوع الى وطنه دون سابق موعد معه ، ويرافقهم طبيب جراح يحمل العدة والعتاد لقطع الأوصال ومسح الأدلة ، وكل ذلك بدون علم الملك أو ولي عهده ، فهل كان خاشقجي يعارض النظام أم كان يعارض مصالح فريق الموت ؟ ، ربما يحتاج المرء إلى التخلص من عقله ليتبين له أنه “حديث صحيح” .
في المحصلة هذا جمال قد قتلوه وسحلوه وقطعوه وما شبه لهم ، لكنهم عرفوه وعلموه وترصدوه ، لكن فكرة جمال أو جمال الفكرة لن تموت ، فالذي مات بالفعل هو الإحساس بالإنسانية لدى من يعتقدون أنهم قادرون على العيش كيفما أرادوا ولو كرهت شعوب العالم كله ، قوم وجدوا كنوز الله تحت الأرض تسيل جداول وأنهار ، فباتوا يغرفون ويبيعون ، وجمعوا مالا لبدا اعتقدوا أنه يمنحهم الرخص لقتل من شاءوا ووقتما شاءوا وأينما شاءوا ، والتاريخ يشهد أن المجد للفكرة المغتالة غدرا ، والبؤس للفاعل أكان فاعلان مباشرا أم محرضا أم رأسا مدبرا ، سيظل جمال الصحفي حاضرا بفكرته ، وقد تتطور الفكرة وتصبح منهجا ثم تيارا قد يعصف بأوتاد خيمة القاتل ، سيظل جمال شهما مقداما شجاعا باسلا استجمع قواه بعد أن تاب عن غيه في مسامرة حراس الكهنوت ، ، وقال كلمته أمام عالم صنع من مقتله صفقة يبيعها لمن يدفع أكثر، وسيبقى شبح جمال وروح جمال وأعمدة جمال جملية متلألئة براقة تساءل أحرار هذا العالم ، أننا تهنا عن مسلك الإنسانية والتحضر ، وأننا نسير في طريق البرابرة الغزاة الطغاة ، وأن رائحة الدولار والأورور أفقدتهم طعم العدالة والحق والقانون والمنطق ، وبات كل شيء خاضع لميزان العرض والطلب ، و سيدخل جمال كتاب الخوارق بأنه أول “معارض ناصح” فعل في نظام وهو ميت ما لم يفعله فيهم وهو حي يرزق .