الزلزال الذي لم يرصده تقرير جطو

لا يمكن اعتبار إعفاء ثلاث وزراء في حكومة بمثابة زلزال سياسي كما يروج لذلك البعض ، فكل ما وقع هو استدعاء الفصل 47 من الدستور الذي يمنح للملك الحق في إعفاء عضو او أكثر من أعضاء الحكومة ، بعد استشارة رئيسها ، فالأمر لا يرقى الى وصفه بالزلزال ، ثم عن قرار “عدم رضا الملك عن عدد من المسئولين ” ، فهؤلاء المغضوب عليهم ، هم خارج مجال المهام الرسمية ، وبالتالي سنتحدث عن ” إخراج أو إعفاء من هو خارج أو معفى أصلا ” .
ولابد من قراءة تقرير المجلس الأعلى للحسابات حول مشروع منارة الحسيمة بدقة ، فالتقرير يحمل في مقدمته مقومات الزلزال الكبير الذي لم يهتم به أحد في تقرير المجلس ، حيث يشير التقرير وبالحرف الى ” تبين من دراسة مكونات هذا البرنامج انه لم ينبثق عن رؤية إستراتيجية مندمجة تتقاسمها جميع الأطراف ، إذ تبين ان إعداد المشاريع المكونة لهذا البرنامج لم يتم بالدقة المطلوبة ” ، وهكذا يتضح ان المشروع برمته انطلق ومن بدايته مختلا ، ويهرول في اتجاه الاختلال ، في غياب رؤية إستراتيجية كما جاء في التقرير ، فيكون المشروع قد خطا خطوة كبيرة نحو الفشل قبل ان ينطلق ، لأن مشروعا ضخما يضم 644 مشروعا بغلاف مالي قدره 900 مليار سنتيم ، يجب أن تسبقه دراسة ميدانية يقوم بها مكتب دراسات متخصص ومحترف ، فإذا كان مرحلة الإعداد بحسب التقرير تفتقد للرؤية الإستراتيجية فماذا نتوقع من مرحلة التنفيذ ؟ ، فيكفي الإشارة الى ان التقرير جاء فيه انه تم إحداث لجنة مركزية لتتبع المشروع ، لكن دون تحديد وتعيين رئيس لهذه اللجنة المركزية ، قصد ربط المسؤولية بالمحاسبة ، علما ان المشروع تم التوقيع على اتفاقيته بتاريخ 17 اكتوبر 2015 اي في ظل دستور 2011 الذي نادى بربط المسؤولية بالمحاسبة ، ليتضح ان المسؤولية لم يتم ربطها ولا تعيين من يمثلها في غياب تعيين او تحديد رئيس للجنة المركزية لتتبع المشروع العملاق ، ترى من كان وراء قرار عدم تحديد رئيس هذه اللجنة ؟ وما المانع من عدم التحديد ؟ مع العلم ان التقرير يشير الى انه تم تحديد رئيس للجنة المحلية وهو عامل إقليم الحسيمة ، ليطفو سؤال آخر هو : ترى كم من مشروع يفتقد للرؤية الإستراتيجية في المغرب ؟وأما كان على التقرير أن يتوقف عند هذه الملاحظة الجوهرية ويرتب عليها جزاء؟.
وقد تحدث التقرير كذلك وبالحرف عن ” حيث ان الجدول الزمني التوقعي لانجازها اكتفى بتحديد المساهمات السنوية للأطراف المشاركة ، إذ انه في غياب المبالغ المرصودة لكل مشروع على حدة تبقى هذه المساهمات ذات طابع تقديري ” ، وهنا توشك صورة ملامح الفشل على التشكل ، فإذا كان المشروع بدون رؤية إستراتيجية ، وعموده الفقري الذي هو السيولة المالية غير محددة بدقة وغير جاهزة ، ولجنته المركزية تعمل بدون رئيس ، فكيف يمكن له أن ينجح ؟ وكيف يمكن لوزير أو حتى لرئيس حكومة أن يصوب هذا الاعوجاج ؟ ، فالثابت أن المشروع أعد بارتجالية أو بتسرع ، وإذا كانت المشاريع المدروسة بدقة تعتريها بعض المشاكل عند التنفيذ ، فكيف سيكون الحال مع مشروع بدون رؤية ولا موارد مالية واضحة ، ولا حتى رئيس لجنة لتتبعه ؟ ،
وأورد تقرير جطو انه من أصل 644 مشروعا مبرمجا تم انجاز 5 مشاريع فقط خلال سنة 2016 ، وعن مبررات هذا التراخي الملحوظ برر المعنيون بالإنجاز أن التعثر يعود الى ثلاثة أسباب ، أولها التوصل المتأخر بوثيقة الاتفاقية الإطار ، وهذا مبرر يوضح الاستهتار بالمشروع ، لان التوصل بوثيقة الاتفاقية إجراء بسيط وسهل ، ولعل التحجج به هو عذر أقبح من زلة ، وثانيها عدم برمجة الاعتمادات المالية ، وثالثها تعبئة العقار ، وهنا يبرز السؤال المشروع : كيف يمكن الشروع في انجاز مشروع لم يرصد له اعتماد مالي ، ولم يتم فيه تهيئ الوعاء العقاري ؟ . ورغم وجاهة المبررين الثاني والثالث فان تقرير جطو لم يهتم بهما ، وجاء فيه ” ويعتبر المجلس الأعلى للحسابات ان هذه التعليلات لا يمكن ان تبرر عدم اتخاذ المبادرة للشروع في تنفيذ البرنامج ” ترى كيف يمكن الشروع في تنفيذ مشروع يفتقد للغلاف المالي وللوعاء العقاري ؟ .
على ان المثير في تقرير جطو انه أوصى بتسريع القيام بالدراسات الأولية الضرورية ، وهذا تناقض ما بعده تناقض ، إذ كيف يوصي بتسريع القيام بالدراسات الأولية الضرورية ، ويؤاخذ المسئولين على عدم الشروع في التنفيذ ؟ فهل هناك تنفيذ يسبق الدراسات الأولية ؟ ، ويواصل تقرير جطو تناقضه حين يورد وصيته ب ” اقتناء وتصفية العقار والحرص على صرف مساهماتها المالية ( يقصد القطاعات الوزارية المختصة ) بشكل منتظم ” ، فكيف يسعى تقرير جطو الى تحميل عدد من المسئولين مسؤولية التقصير في مشروع ، ويعود ذات التقرير ليوصي باقتناء عقار للمشروع ، بمعنى أن العقار لم يتم تدبره بعد ، مع ما يتطلبه ذلك من إجراءات نزع الملكية وتعقد مسطرتها ، علما ان التقرير يقر بندرة العقار في المنطقة وتكلفته المالية المرتفعة وتعدد ملاكه ما بين خواص وأوقاف وأملاك مخزنية ومياه وغابات .
ووجبت الإشارة الى ان تقرير المجلس الأعلى للحسابات تضمن عددا من التوصيات والمقترحات ، مع عدد من التقييمات لعدد من الإشكالات وصلت إلى حد إصداره لأحكام ، وبالعودة الى الدستور فإنه ليس من مهام المجلس الأعلى تقديم التوصيات ، ولا المقترحات ولا إصدار الأحكام ، فمهامه تتوزع بين المراقبة المالية العمومية ودعم الحكامة الرشيدة من شفافية ومحاسبة بالنسبة للدولة والأجهزة العمومية ويتحقق من سلامة العمليات المتعلقة بمداخيل ومصاريف الأجهزة الخاضعة لمراقبته مع مراقبته وتتبعه للتصريح بالممتلكات وتدقيق حسابات الأحزاب وفحص النفقات المتعلقة بالعمليات الانتخابية وغيرها من الاختصاصات التي ليس من بينها إصدار التوصيات والمقترحات وإطلاق التعليقات أو الأحكام ، لكن في تقرير منارة الحسيمة بالغ التقرير في توصياته وإصداره لأحكامه ووجهات نظره ومستنتجاته ، بل ويستفاد من التقرير افتقاده للموضوعية والحياد عند انجاز تقريره ، فكان لزاما على معد التقرير أن يلعب دور المحقق بالوقائع والأرقام والتصريحات ، وأن يترك الاستنتاج والتوصيات لجهات أخرى ، لأنه بدا وان تقرير المجلس جمع بين المحضر و المتابعة والحكم .