مجتمع

روبوتاج ” الترمضين” في الادارات العومية

عقارب الساعة تقترب من العاشرة صباحا. مازال الباب الخشبي الكبير موصدا في وجه خمس نساء ورجل كهل يلقي بتعبه على عكازين. تشفق المرأة بجلباب أسود و”فولار” بني من حاله، وتساعده على الجلوس على عتبة مصلحة تصحيح الإمضاءات وتدعو له بالشفاء.
يسند الرجل المتعب ظهره إلى الحائط، ويسحب من تحت جلبابه كيسا بلاستيكيا أبيض يظهر داخله عدد من الوثائق، ثم يطلب من المرأة نفسها أن تفتش بينها على نسخة من عقد كراء ونسخة من وكالة باسم ابنه. يتفحص الوثيقتين بيدين مرتعشتين ويضعهما جانبا، ثم يلوذ إلى الصمت.
تفقد إحدى النساء صبرها، وتتجه نحو الباب الخشبي الموصد، وتطرقه براحة كفها ثلاث طرقات متتالية، ثم تضع أذنها عليه علها تسمع وشوشة قادم يتكفل بفتحه من الداخل، ويسمح لهم على الأقل بالانتظار فوق كراس، بدل قضاء النصف الأول من اليوم في جو قائظ.
تعود المرأة إلى طرق الباب من جديد، مستعينة هذه المرة بحاملة مفاتيح، فتسمع صوتا مزمجرا من الداخل “هز مكافشك على الباب.. غادي تهرسو”.
يسمع صوت مزلاج، وطقطقات مفتاح، وجلبة وكلام غاضب غير مفهوم، ويفتح الباب، أخيرا، على وجه متجهم وعينين ذابلتين من النوم، يعاتب طارقة الباب بكلام خشن، ويحذرها من تكرار المحاولة، ثم يختم كلامه “رجعي اللور أشريفة، مالكي غادي طيري..الصباح هادا أش كاين”.
يستمر الرجل في شتائمه، بينما انسحبت النساء الخمس إلى الخلف ونظمن أنفسهن، تلقائيا، في طابور صغير التحق بمؤخرته شاب سارع إلى طرح السؤال: “واش كاينة شي خدمة اليوم ولا نمشيو فحالنا”.
يرد عليه الرجل، الذي يبدو من هيأته أنه عون خدمة بمصلحة تصحيح الإمضاءات، “الخدمة موجودة أولدي، خاص غير شويا الصبر حتى يجيو الموظفين وكلشي غادي يدوز بخير إن شــــاء الله”.
يعود عون الخدمة أدراجه ويغلق الباب من جديد، ثم يفتحه بعد مرور ربع ساعة، ويطلب من المرتفقين الدخول بانتظام في انتظار وصول الموظف المكلف إلى مكتبه.
تلتحق النساء الخمس والرجل الكهل والشاب بقاعة متوسطة في طرفها عدد من الشبابيك الزجاجية. يساعد الشاب الرجل المعاق على الجلوس، ويسحب هاتفه من جيبه ويشرع في تقليب شاشته بأصبعه، بينما تنتظم ثلاث نساء أمام الشباك الفارغ في انتظار وصول موظف قد يأتي أو لا يأتي.
فلا تخلو الإدارات العمومية، خصوصا التي لها علاقة بخدمات المواطنين، من مشاهد من هذا النوع في صباحات رمضان، إذ من المقرر، حسب دورية لوزير الوظيفة العمومية وإصلاح الإدارة، أن يبدأ العمل من التاسعة صباحا، ويتواصل إلى الثالثة زوالا من الاثنين إلى الجمعة، مع تسهيلات في النصف الثاني من يوم الجمعة لأداء صلاة الجمعة.
ورغم هذه الامتيازات في الدخول والمغادرة، فإن أغلب الموظفين (ليس كلهم بطبيعة الحال) يعتبرون رمضان شهر استراحة مدفوعة الأجر من حقهم الاستفادة من فتراته، وبذل أدنى ما يمكن من جهد في النهار في انتظار جرس الخروج.
فأغلب الموظفين الذين يلتحقون بالعمل (بعد نصف ساعة على الأقل من التوقيت القانوني)، لا يفعلون ذلك إلا خوفا من رؤسائهم، أو من اقتطاع أجرة اليوم، لذلك يكتفون بتسجيل الحضور، ثم التفرغ لتزجية الوقت، سواء في قراءة الجرائد، أو تصفح شاشات الهواتف المحمولة ومواقع التواصل الاجتماعي، وتبادل الصور والتهاني والفيديوهات عبر “الواتساب”، أما “المؤمنون” جدا، فيقضون نهارهم في قراءة القرآن والصلاة والاستغفار في انتظار ساعة المغادرة.

و

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى