الرأي

شيخ تخطى حائط الله

يدور نقاش قديم جديد حول مطلب “المساواة بين الذكر والأنثى في الإرث” ، وإذا كانت بعض الآراء اليسارية اعتادت التحرش بالثابت من الدين بالضرورة ، وطبعا حقها في التعبير عن وجهة نظرها مكفول ، فإن ما هو غير اعتيادي هو أن ينضم إلى قافلة القائلين بضرورة تعديل الآية القرآنية من قوله عز وجل “للذكر مثل حظ الأنثيين ” إلى مقترحهم القائل ب” للذكر مثل حظ الأنثى ” ، هو انضمام شيخ مدان بتهم تتعلق بالإرهاب وما يرتبط بهذا الصنف من التهم من تطرف وغلو ، هذا الشيخ غير الوجهة ب معدل 180 درجة ، وتبين له أن الآية القرآنية المذكورة قد آن الأوان لإعادة صياغتها بما يخدم قضية المساواة بين الرجال والنساء في الإرث ، وهو بذلك يقدم أوراق اعتماد لدى صنف من جمعيات المجتمع المدني للتعبير عن انسلاخه وتبرئه من مشاريع الأحزمة الناسفة .

طبعا لست في حاجة إلى أن أذكر الشيخ بحدود الله وثوابت دينه وترسخ ذلك في أذهان العامة من الشعب كمقدسات غير قابلة للنقاش حتى ، وتأثير رأيه على السلم والأمن القوميين ، وما يمكن أن يخلقه رأيه من فتنة بين الناس ، وهذا حقهم كذلك ، لكن حق الشيخ في التعبير تكفله له آيات بينات من نفس القرآن الذي وردت فيه آية الميراث بين الذكر والأنثى ، وعليه لا حق لأحد في أن يتهجم عليه ، ولا أن يهدده أو يسبه ، فالآراء تحترم رغم طابعها الاستفزازي أحيانا ، رغم أن الشيخ المذكور صدر في حقه حكم قضائي نهائي وقطعي يحمله جانبا من مسؤولية قتل الأبرياء ، حيث لم يكن الشيخ يومها يعرف معنى لحرية التعبير ، لأنه كان رفقة “إخوانه” من “الفئة الناجية ” وغيرهم في النار .

كان حري بالشيخ ألا يهدر وقته في النبش في موضوع لن يجلب له سوى أصوات الاستهجان ، فإذا كان حقه في التعبير مكفول ، فحق الرد على وجهة نظره مكفول أيضا ، فالشيخ لم يكن في يوم من الأيام باحثا إحصائيا ، ليقدم للمتتبعين وبالأرقام الدور الذي يلعبه الإرث في صناعة الثروة بين صفوف الشعب المغربي ، كما لم يقدم صاحبنا إحصائيات وبالأرقام حول الحيف الذي يطال الأنثى جراء حيازتها فقط لنصف الميراث مقارنة مع الذكر، وما حققه الذكور من تجميع للثروات المتحصلة من الميراث ، وما فات الأنثى من كسب جراء “التوزيع غير العادل للإرث” ، كما لم يقدم صاحبنا لتعزيز رأيه النشاز وبالأرقام دائما قيمة الثروات التي يخلفها المورثون ، حتى أمكن التعاطف مع رأيه للجزم بأن هناك “ظلم يجب أن يرفع ” ، فقط أراد الشيخ أن يبرهن على توبته من “المنسوب إليه من إرهاب وما شابه ذلك ” فقفز على الثابت من الدين بدون بيان ، معتقدا أن قفزته تلك ستشفع له في حصوله على شهادة حسن السيرة والسلوك من عند “موالين الوقت” .

فأما مسألة المساواة بين الرجل والمرأة ، فلا أحد تجري في عروقه دماء الإنسانية يرفضها أو يعارضها ، وقد طالبنا بها عندما كان الشيخ يخفي المرأة خلف ستار من الثوب ، لا تظهر منه لا المفاتن ولا ما يجوز الكشف عنه ، طالبنا بالمساواة عندما كان الشيخ و”إخوانه” ينكحون ما طالب لهم من الصغيرات القاصرات وبدون عقد زواج ، طالبنا بحقوق النساء عندما كان صاحبنا يروي عن رواته ما نسب لنبي الرحمة وهو منه براء أن المرأة ضلع أعوج ، لكن ما نريده من الشيخ الذي انضم إلى المدافعين فجأة عن حقوق المرأة أن يبحث لنا في سبل المساواة للجميع أمام القضاء وأمام القانون ، في المساواة للجميع في تقلد المناصب اعتمادا على الكفاءات وليس على هواتف الآباء والأمهات ، في المساواة للجميع أمام المؤسسات العمومية ، وليس البعض ممن يمرون لقضاء حوائجهم كالبرق ، في حين تظل حوائج البعض عالقة تنتظر شفاعة رشوة أو وساطة ، في المساواة بين الجميع في التطبيب والتعليم والسكن ، في المساواة في الحق في العيش الكريم للكل رجالا ونساء ، وعندما نحقق هذا الشق من المساواة وندخل عالم البذخ الفكري ، أمكن التجرؤ على حدود الله .

لقد آلمني شخصيا ما صدر عن الشيخ ، ولو صدر عن غيره لما حصل اهتمامي بالأمر ، فالشيخ استفزني برأيه ، وأنا إذ أحترم رأيه على مضض ، فأنا أعبر عن رأيي الرافض لفكرته جملة وتفصيلا ، فنحن في المغرب لا نعيش من التركات المتروكة لنا من مورثينا ، لأن الثروة في المغرب حكر على أقلية ، ومشاكل المرأة المغربية لا يلعب فيها الميراث أي دور ، مشاكلها مع ثقافة سائدة ، ومع فقر مدقع ، ومع أمية ، ومع تفقير وتجويع ممنهجين ، ولأن الثروة في المغرب تصنع بعيدا عن التركة ، والباقي من خلق الله يعيش على الكفاف والعفاف ، فما عسى المورث من ملايين الشعب أن يترك خلفه من ثروة ، غير شقة في السكن الاقتصادي في أحسن الاحوال ، مثقلة بقرض بنكي ، أو قطعة ارضية فلاحية على الشياع مع باقي الأعمام أو الأخوال ، وما عسى قيمة تلك الشقة ان تغير في وضعية ورثة كثر ، وكم سينتظر الوارث من الوقت ليتوفى مورثه ثم يرثه ؟ وبماذا سيدبر أموره في انتظار وفاة المورث ؟، في المحصلة فإن الإرث ليس مصدرا من مصادر الثروة ، ولا عاملا مؤثرا فيها، فالإرث يقول يصفه المغاربة ب ” الباروك ” ، ولا يمكن للشخص أن يقعد عالة ينتظر وفاة مورثه ليرثه ، ولا خير في قوم متواكلين يتحينون فرصة موت أب أو أم أو أخ أو أخت للاقتيات من تركته .

لذلك فإن الشيخ الذي اعترف أخيرا بأن حلق اللحية ليس عملا محرما ، واعترف أن ارتداء ربطة العنق مع البذلة الأنيقة عمل حلال ومباح ، نرحب بعودته إلى صف الحكمة والعقل ، ونريده أن “يكمل خيرو” ويحاور ثلة من الشباب الذي يعيش استلابا فكريا وعقائديا ، ويعيش بجسمه في القرن الواحد والعشرين وعقله يدور في زمن صهيل الخيل ، وسل السيوف ، وخوض الغزوات ، لا نريده أن يرمي ملحا على جروحنا المتعفنة ، فلنا من أسباب التمزيق ما يكفينا ، ولا نريده أن يتسلق حائط الله ليحظى بحظوة لدى أهل الدنيا، نريده أن يروي لنا الصحيح من حديثه ، حين كان يهجر التلفزة والجريدة والمقهى ويعتبرهم رجسا من الشيطان ، قبل أن يصبح صوتا مألوفا في المذياع ، وشخصا مطلوبا في المواقع الالكترونية ، نريده أن يحدثنا عن كيفية وطريقة هروبه من مخالب أهل التطرف ، ودخوله بيننا نحن معشر المغاربة الطيبين ، نريده أن يروي لنا كيف ابتلي بفكر التطرف ، وكيف شفي منه ، كيف السبيل إلى تلقيح الشباب ضد ذلك الوباء ، لكن لا نريده متطرفا حتى في توبته ، وهو يقصف ما نؤمن به ويستبيح ما نعتقده ، وكأني به يعيدها صرخة ممقوتة قالها صاحبها غفر الله له “آتوني قلما أحمر لكي أصحح القرآن ” واستغفر الله من غضب الله .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى