كأس العرب: عندما يصبح النهائي احتفالاً بالمدرسة المغربية: قراءة في أبعاد “الكلاسيكو المغربي” على دكة البدلاء.

في مشهدٍ يُختزل فيه تاريخ من الإنجاز وصراعٌ طويلٌ ضد النسيان المقصود والتهميش المُتعمد، يخطو منتخبا الأردن والمغرب إلى ملعب نهائي كأس العرب حاملين في طياتهما مفارقة كروية هي الأعظم في العصر الحديث: رايتان وطنيتان مختلفتان، وفلسفة تدريبية واحدة ترفعها عقول مغربية اختطت طريق المجد لغيرها قبل أن تخطه لذاتها.
فهذا المشهد ليس مجرد لقاء تنافسي عادي، بل هو تتويج لحلم استراتيجيٍ وعته الكرة المغربية جيدا: تحويل العقول الرياضية من منتج محلي إلى صادرات رائدة تعيد تشكيل الخريطة الكروية العربية.
لقد انتقلت الكرة المغربية، بعقليةٍ استشرافيةٍ فذة، من مرحلة تصدير المواهب اللاعبين فقط، إلى مرحلةٍ أرقى وأعمق تأثيرا: مرحلة تصدير العقول القيادية والخبرات التكتيكية التي أثبتت أنها تفهم ثقافة اللاعب العربي وتتمكن من قيادته إلى أعلى المراتب العالمية. لقد كان المدربان الحسين عموتة وجمال السلامي خير سفراء لهذه الفلسفة، حيث حوَّلا منتخب الأردن من فريق يحلم بالإنجاز إلى فريق يفرض نفسه في نهائيات كأس العالم ويصل إلى النهائيات القارية والعربية.
هذا النجاح المزدوج الذي تحقق على أيديهما هو أكبر ردٍ عملي على كل محاولات التشكيك والتقليل التي تعرضت لها الكفاءات المغربية من بعض الأصوات الضيقة.
إنه إثبات بأن الإنجاز المغربي لم يعد محصورا في حدود الوطن، بل أصبح ظاهرة عابرة للحدود، تبني الأمجاد وترسم ملامح القوة الكروية بعيدا عن ضجيج الحقد وثبات العقد.
إن أهمية هذا المشهد التاريخي تتجاوز فوزاً أو خسارةً مؤقتة؛ فهي إعلان صريح عن ولادة “مدرسة مغربية” حقيقية في التدريب والتأهيل. مدرسة قائمة على الانضباط التكتيكي الحديث، والفهم النفسي العميق، والجرأة في الاعتماد على الطاقة الشابة، والانفتاح الذكي على التجارب العالمية دون ذوبان الهوية.
إن رؤية مدربين من هذه المدرسة يتقاسمان منصة نهائي بطولة مرموقة يرسل رسالة قوية إلى كل الاتحادات والأندية العربية: الكفاءة الحقيقية موجودة هنا، وهي قادرة على منافسة أكبر الأسماء العالمية وأكثرها تكلفة. لقد نجح المغرب في تحويل الكرة من ساحة لعب إلى مشروع فكري متكامل، يبني اللاعب ويصقل المدرب ويصدر الحكمة الكروية.
وبالمقابل، يضع هذا الإنجاز الكرة المغربية في موقع القيادة الفعلية والمسؤولية التاريخية. المستقبل يطرح آفاقاً أوسع: تحفيز جيل جديد من الخبراء المغاربة، وفتح الأبواب على مصراعيها أمام مدربينا لقيادة أكبر الأندية والمنتخبات، وترسيخ مكانة المغرب كقطب أساسي في صناعة الكفاءات الكروية على المستويين العربي والإفريقي.
إنه تأسيس لنفوذ ناعمٍ مبني على الاحترام المهني والإنجاز الملموس، بدلا من الخطاب الفارغ والادعاءات.
هذا النهائي، في جوهره، هو احتفال بانتصار الإرادة على الإقصاء، والمعرفة على الجهل، والروح الرياضية الشريفة على حقد الحساد. إنه لحظة ينتصر فيها المنطق ويسقط فيها كل تشكيك، لأن الكرة تتحدث بلغة الأرقام والنتائج، وهما لغة يفهمها الجميع.
فلتستمر هذه العقول المغربية في الإبداع، وليكتب التاريخ، بإنصاف، أنهم كانوا سادة الميدان، من أرض الملعب إلى دكة القيادة، حاملين شعلة كرة عربيةٍ جديدةٍ تتحدى المستحيل وتصنع المجد من حيث لا ينتظرها أحد.




