الرأي

التطرف الموسيقي : “دون بيغ” و170 كيلو من الكلام “الخاسر”

محمد الشمسي

بسبب نهمي على استهلاك الأخبار حتى بدون مضغها ، قرأت أن مغنيا تارة يحمل اسم “الخاسر” وتارة يحمل “دون بيغ” قد أطاح بمغن يحمل اسم سعد لمجرد من قمة الأغنية الأعلى إقبالا ومشاهدة ، ولأن المغني الثاني لا تروقني أغانيه ، باعتباره أضاع رسالته الفنية وحمل بدلا عنها ملفات قضائية أمام القضاء الفرنسي ، فقد دفعني الفضول وليتني ما فعلت إلى التلصص على ما جاء في أغنية هذا المسمى “الخاسر” ، وعلى قيمتها الفنية التي أزاحت ” ولد البشير عبدو ” من القمة في زمن بات فيه “الطوندونس” معيارا محددا لنجاح أو إخفاق الاغنية ، وانطلقت الأغنية بإيقاع مألوف مستقدم من الغرب ، ثم يشرع السيد الخاسر في “تخسار الهضرة” ، لم أقو على إتمام الأغنية لكنني أكملتها حتى يكون حكمي عليها منصفا ونابعا من عين الحقيقة ، كلمات ساقطة وإباحية ، تشكل تهديدا للناشئة ، بل تشكل جريمة متكاملة الأركان ، خاصة مع تأثيث المشهد ب”جوانات المخدرات والحشيش” ، والمغني يقف منتشيا بمجده الفني الهابط ، يقصف المسامع بما يختزنه في مستودع مجونه ، ولعلي به “مداير بحساب قانون ” ، بل و كأنه في غابة بلا رقابة .
يسمونه ب” الراب” ، يقولون أنه فن السباب من “الصمطة ولتحت” بين الخصوم ، أو ما يسمى ب”الكلاشات” ، وهي مصطلحات دخيلة تحتل عقول أبنائنا رغما عن أنوفنا ، جاءتنا عبر أثير الأنترنت الماكر ، الذي سرق منا عقول صغارنا ، بعد أن سرق عقولنا نحن الكبار ، وتذكرت الفرزدق وجرير كيف كانا يصوغان ذمهما لبعضهما في قوالب بديع الشعر ، وجمالية الصورة ، تجعل القارئ يستمتع بحلاوة اللغة .
علمت أن عنوان أغنية “الخاسر ” هو “170 كيلو” ، لا أدري سبب التسمية ولا سبب النزول ، في فن لا أحد يعرف كيف نزل على رأس هذه الأمة فأوجعه ، اعتقدت أن “170 كيلو” مرتبطة بوزن المغني المذكور فهو يظهر بدينا و فوق العادة ، ظل “الخاسر” يفرغ كلامه “الخاسر ” لقرابة ست دقائق ، حتى أفرغ قواميس “الواد الحار” الذي يملكه على خصومه بكثير من قلة الأدب وقلة الحياء ، حتى توقعت من رئيس النيابة العامة أن يعطي تعليماته باعتقال هذا المغني ، لما يشكله من إفساد لليافعين والجيل الناشئ .
تبقى أغنية “الخاسر” هي قطرة في مستنقع فني غرق في الخلاعة والحقارة ، وبات فيه البحث الأعمى عن الإثارة الساقطة والنجومية المنحطة ، تتغذى على سفالة ورذالة ثقبتا قاع الحضيض ، فهناك أكثر من “خاسر” بل لقد خسر الواقع وخسر الفن ، وفازت النذالة والبذاءة ، والقيمون على الأمن الفني والثقافي للمغاربة يتفرجون أو لا يعلمون ، ويتركون هؤلاء النكرات ينهقون بأنكر الأصوات وأنكر الأداء ، ويذيعون “فاحشتهم ” عبر مواقع التواصل الاجتماعي ، وهي فاحشة متطرفة ، تقود فننا إلى هاوية بلا قاع ، وتجعله فنا يعيش على نسبة المشاهدات ، بغض النظر عن خسة الألحان و وسفالة الكلمات ، في زمن باتت فيه الصدور والمؤخرات رأسمال جل الفنانات ، وبات فيه المغنون يستوردون الحسناوات من خارج المغرب لإنجاح أغانيهم بالمنشطات .
و بالرجوع الى بعض المعاجم للبحث في معنى التطرف ، فإن التطرف يعني الانزواء إلى طرف الطريق ، وهو المغالاة السياسية أو الدينية أو الفكرية ، والتطرف هو الابتعاد عن التوجه العام للمجتمع ، وهو منهج فيه عنف للترويج لأجندة معينة ، ومن مرادفاته الإطناب والإفراط والبالغة والتجاوز والغلو وغيرها ، ومن أضداده الإعتدال والتوسط والاستقامة وغيرها ، وإذا كانت المناسبة شرط لدى العلماء ، فإننا نقول ما نقول ونحن نعاين كيف أن مجتمعنا بات يتقاذفه صنفان من التطرف ، كل صنف يجذب مجتمعنا إليه بقساوة ، فهذا التطرف الديني الذي يعبر عن نفسه بوحشية لا تعير للأرواح ولا للأعراض قيمة ، يتباهى أهله بنحر غيرهم من بني البشر ، ويطمعون في جنة الخلود نظير جريمتهم ، ثم هذا التطرف الأخلاقي والثقافي والفني الذي بدوره يقود المجتمع إلى مخاصمة الاستقامة والجنوح عن الاعتدال ، مع الإفراط في الإسراف والابتذال ، وجعل من الفسق والفسوق رأسمال ، لنحصل في نهاية الطريق على تطرفين وإن كانا متنافرين فهما ثمرتين من شجرة التطرف .
لا أدري لم لا تتم محاكمة هؤلاء الذين يتخذون من اللفظ الإباحي الماجن سبيلا لتحصيل ثروة قذرة ، تروم التأثير سلبا في جيل غير مكتمل النضج ، يمضي وقته منصتا ومعجبا بذلك الكم من الميوعة والبغي ، بل وقد يتجاوزه من الإنصات والإعجاب إلى المحاكاة والتقليد ، فيكون بذلك هذا “الفنان المتطرف” لا يختلف عن ذلك الشيخ المتشدد الذي يشحن ذوي العقول الفارغة بحمولة الحقد والكراهية .
نتسائل كمتتبعين ، وكآباء ، وكمربين ، وكتربويين ثم كفاعلين جمعويين ، من يحرس الذوق العام لهذه لأمة ؟ ، ومن يحرس فنها وثقافتها ؟ من يحمي أجيالها من هذا البعبع ؟ ، ومن ينقي أجوائها من تلوث يتمظهر في شكل فن ، غاية أهله التربح من منهجهم البورنوغرافي الإباحي الماجن ، الذي يهرب بالأمة من اعتدالها ووسطيتها ؟ ، ونحن ندرك أن كل انحراف عن الوسطية هو تطرف بالضرورة ، سواء كان في اتجاه الصعود للجبل وذبح الأبرياء ، أو في اتجاه النزول أسفل السافلين وإفساد الأخلاق ، كل ذلك ونحن نتفرج ونصفق و”نبارطاجي” ، أما من سيجهل علينا بحرية التعبير وحقوق الانسان فنرد عليه ” أخرج أنت وهذا الصنف من حريتك وحقوقك من عالمنا ، واتركونا مسجونين في ساحة الحياء والنخوة ” ، وقد قيل قديما ” تموت الحرة ولا تقتات بثديها ” ، والسلام عليكم.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. لا ياسيدي، لن أقول لك ” أخرج أنت وهذا الصنف من حريتك وحقوقك من عالمنا ، واتركونا مسجونين في ساحة الحياء والنخوة ”، لا حاشى. أقول لك “قوٌد” فقط لا غير. تحيٌاتي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى