شكايتي إلى معالي وزير الثقافة

محمد الشمسي
معالي الوزير المحترم :
ساقتني ضغوطات “لوبي أبنائي” إلى أن أنزل في مصطاف جميل في إحدى مدن مملكتنا الحبيبة ، استأنست بالفضاء وأنا أرمق صغاري وصغار باقي نزلاء المصطاف يمرحون وسط مسبح وساحة معشوشبة ، وعيون الآباء والأمهات لا تغفل عنهم ، وبالكاد تطبق الرموش على بعضها لتعود إلى المراقبة ، كم كان الناس هناك طيبون واجتماعيون ، فقط كان في قلب المصطاف يقعد شاب أحاط نفسه بآلات تفرز أصوات يسمونها عدوانا بالموسيقى يذيعها مكبر صوت ، يوصلها ليس فقط إلى الآذان بل يخترق بها الجماجم والأفئدة ، لم أقو على التهرب من تلك الأمواج الصوتية التي حللتها مسامعي فصنفتها في خانة “المزعجة ” ، ولأنه لم يكن لي حظ في الفرار من قدري ، فقد فكرت في أن أغتنمها فرصة لأنصت لما أسمع ، لعلي أجد في هذا “التسونامي الصاخب” ما يمكن أن أقنع به نفسي في أن ما يجتاحني يدخل في خانة الموسيقى كعلم وفن ،علما أنه لي نصيب في الفن و لست أميا أو أبلها فيه ، ودققت في كلمات ما ينتاب مسامعي ، فوجدتها وقاحة في القول وفحش في اللسان ، وتيهان في الميزان ، ذكور من المغنين ـ حتى لا أقول رجال ، لأنه شتان بين الرجل والذكر ـ يسبون خليلاتهم وعشيقاتهم المفترضات سبا سبا ، وإناث مغنيات يبادلن الذكور ذات الشعور بذات الرد البذيء ، وخليط بين الفرنسية والعربية والدارجة ، والكل تحت صخب آلات موسيقية يقرعها الضارب عليها بلا رحمة ولا هوادة ، وتشابه على مسامعي اللحن ، حتى باتت كل الأغاني بلحن واحد ، أما الأداء فكان قريبا إلى البكاء حينا ، و إلى الصياح أو الاستغاثة حينا آخر ، ولأنه “حكمت عليا الظروف” ، قضيت مع تلك المقطوعات العقابية أياما معدودات في كل مرة انتظر ظهور الفن في ما أسمع ، فلا أجد غير العويل و النواح .
السيد وزير الثقافة المحترم :
كيف تسمح وزارتكم بالاعتداء على ذوق الصغار و الكبار بهكذا “موسيقى” ماسخة ، فيها خليط من العنصرية والتمييز والتحقير ، وفيها أيضا من الإباحية والكلام الأجوف ، وفيها الأخطر من كل هذا وذاك تلوث سمعي يصيب الآذان بالصمم ، ويفقد النفوس الرشد والتركيز ؟ ، لم لا تحمي وزارتكم الموسيقى من شرذمة من المراهقين الفاشلين دراسيا ، ممن يصعب تمييز الذكر منهم عن الأنثى في المساحيق والحلي واللباس وحتى الكلام ؟ ، ومن رهط من المغنيات الغانيات ممن يعولن على سراويلهن المخنوقة وصدورهن المكشوفة لتصدير “فن الدعارة ” أو “دعارة الفن” ؟ ، وليتهن اهتممن بتطويع أصواتهن وانتقاء كلمات حماقاتهن مقدار سدس عشر اهتمامهن بتقويم الأنوف ونفخ الخدود ونفخ أماكن أخرى ؟ ، كيف لا تتخذ وزارتكم قرارا تسيج من خلاله محراب الفن بسياج من الشروط التي تعيد للفن قيمته ورسالته النبيلة ؟ ، فإذا كانت الحرية وما أدراك ما الحرية يقيدها قانون حماية لها ، فكيف لا تضع وزارتكم قانونا يصون رفعة الفن وسموه من سموم هؤلاء المرتزقة الذين ينشرون وباء الذوق الفاسد ، ويراهنون على جمهور معطوب الذوق ، يتمايل حيث النغم يميل ؟.
السيد وزير الثقافة المحترم .
هل تظنون أن إنتاج الكثير من هذه “الوضاعة الفنية ” يشكل خزانا ثقافيا يمكن أن يثري خزانة الوطن ؟ ، لا سيدي الوزير ، ففي اليوم الواحد يتم إنتاج ملايين الأطنان من النفايات والأزبال التي تتكدس في المطارح فتصنع جبالا بقمم عالية ، بل وتصنع أهرامات ، لكنها في نهاية المطاف جبال وأهرامات من القاذورات ، وقد تعب رواد الفن و حكيماته من مجاراة هذه القردة النطاطة ، فتواروا خلف الموجة يتفرجون على جيل جامح من أشباه فنانين يفعلون بالمقامات ما فعله هولاكو ببغداد ، وهل غلب وزارتكم ضبط ساحة الفن بضوابط الفن نفسه ، من إحساس رقيق صادق ، وصوت رخم مؤثر ، وكلمات تنفذ إلى الدواخل فتهز الوجدان ، ثم شدى ألحان يطرب ؟، هل غلب وزارتكم طرد هؤلاء العيال من فناء الفن ، ونهرهم والقول لهم بصريح اللسان ” سيرو قلبو ليكم على خدمة ، وهنيو عباد الله من أنكر أصواتكم ” .
السيد وزير الثقافة المحترم :
ذوق الناشئة الفني أمانة في عنقكم وعنق وزارتكم ، والنهوض به وحمايته مسؤوليتكم ، ثم محاربة “التصحر الفني” واجبكم ، والقضاء على “طفيليات الفن وديدانه” على رأس أجندتكم ، ولا يغرنكم صيت البعض منهم أو منهن ، فالأنترنت لا يصنع موهبة ، ومقياس نسب المشاهدة والإعجاب بدعة وهي ضلالة فنية ، فلا مشهد يمكن أن يضاهي مشاهد “البورنو” من حيث أعداد المشاهدات ، ولا الغنج يبني ملاحما ، ولا التخنث ينشئ أمجادا ، هذه شكايتي لكم وسيسجلها التاريخ في سجلات ضبطه ، وصدق من قال “إذا لم تقو على تغيير منكر فعلى الأقل مت وأنت تحاول ”