الرأي

محمد الشمسي يكتب : محاكمة بوعشرين : مرافعات خارج قاعة المحكمة

تسير أطوار محاكمة توفيق بوعشرين وسط هالة من علامات الاستفهام ، وقد زاد قرار سرية الجلسات الملف غموضا ، فكل فريق من فريقي دفاع كل من المتهم والطرف المدني يخرج للإعلام متباكيا وراويا روايته على مقاسه ووفق مصلحته ، وسرعان ما يخرج غريمه ليكذب قوله ويطعن في تصريحه ، وبين هذا وذاك ضاع جزء من حقيقة ما جرى ويجري داخل قاعة توصد أبوابها تفعيلا لروح سرية الجلسات ، وإذا كانت قرينة البراءة مبدأ كوني ودستوري وقانوني مقدس ، فإن كل طرف له الحق في الإدلاء بوجهة نظره من زاوية تواجده وتموقعه ، إن مؤازرا للمتهم ، أو نائبا عن طرف مدني ، أو ممثلا للنيابة العامة ، في تنافس يفترض أن يكون شريفا ومستندا للقانون ، وأمام هيئة محكمة تضع جميع الأطراف في زاوية واحدة ، وتمتعهم بما يضمنه لهم القانون من ضمانات ، لكن الوارد من داخل قاعة المحاكمة أن لا شيء من هذا يتم احترامه ، وأن ملاسنات ومشادات تخرق الأعراف والقانون معا تسجل باستمرار ، حتى أن جمعيات هيآت المحامين عقدت اجتماعا تاريخيا شجبت فيه سلوكات بعض المحامين ، منهم من يحمل صفة نقيب .
وبغض النظر عن مناخ المحاكمة الذي يراه البعض ملبدا بسحب غريبة ، فإن ملف بوعشرين يبقى ملفا عاديا ، وأمثاله كثر ، لكن المتهمين فيه لا يملكون مكانة المتهم بوعشرين ، ولا شبكة معارفه ولا حتى إمكانياته المالية ، التي تمنحه القدرة على انتداب محامين “دوليين” لا يعرفون معنى “المؤازرة التطوعية” ، بل يشتغلون بنظام آلي مثل “كونتور” الطاكسي الصغير ، هو ملف عادي ، يتعين البحث على وسائل الإدانة ووسائل البراءة داخل فضاء القانون وليس خارجه ، ولعل المرافعات على وسائل الإعلام ، وعلى حيطان الفيسبوك ، والتغريدات التويترية ، وتنظيم الموائد المستديرة والمستطيلة في رحاب الفنادق ، لا يغير من طبيعة الملف في شيء ، فالمحامي الشاطر لا يرافع خارج قاعة المحكمة ، ولا يفند محاضر الضابطة القضائية أمام ميكروفونات وسائل الإعلام ، ولا في رحاب العالم العنكبوتي ، وأن من يساوره شك في أن بوعشرين بريء من المنسوب اليه براءة يوسف من باطل زوجة العزيز ، عليه أن ينصت إلى المشتكيات أو لبعضهن ، فسيسمع روايات مرعبة ، هذا دون الاستعانة بالفيديوات التي يبقى للمتهم الحق في طلب إخضاعها لخبرة تقنية للتأكد من سلامتها تقنيا من كل فبركة وتزوير ، كما يبقى على الدفاع ممثلا في نخبة من السادة المحامين عدم الانجرار خلف الدافع السياسي ، واستدعائه لتصريفه في محاكمة تنتظر منهم تحريك السلاح المهني والقانوني ، فقد أبان البعض عن كمية لا بأس بها من الحقد لشخص المتهم ، مستحضرا ذكريات سيئة مع جهة يعتقد صاحبها أنها هي من تسببت له في تغيير مساره المهني ، كما أبان البعض الآخر عن وصوله فعلا لخرف العمر ، بالتلفظ بألفاظ نابية لا تليق به سنا ومهنة ومنصبا ، في حين يبقى على المصرحات في محضر الضابطة القضائية أن تنسجمن مع أنفسهن ومع هيئة المحكمة ، فلا يمكن للخوف من “الفضيحة” أن يدفع بعضهن إلى نسج رواية جديدة تزيد الملف تعقيدا ، ولا يمكن لأخرى أن تبحث لها عن موطئ قدم في ملف لا يد لها فيه .
وتطرح قضية بوعشرين في مجملها ، صراعا أزليا بين متهم قابع في قفص الاتهام يحاول ـ وذاك حقه ـ الدفاع عن نفسه بجميع الوسائل ، وبين ممثل الحق العام الذي يسعى الى تخريب خطط المتهم في الإفلات من العقاب ، لكن الكلمة الفصل في كل هذا تبقى للمحكمة المشكلة من قضاة أكفاء عاينوا ما عاينوه ، وسمعوا أجوبة عما طرحوه من أسئلة ، ثم يصدرون حكما هو في نهاية الأمر حكم قضائي جنائي ابتدائي من تحرير وتقرير بشر يصيب ويخطئ ، تتبعه مرحلة استئناف تصحح ما قد شاب الحكم الأول من علل ، ثم محكمة النقض التي تبسط رقابتها القانونية على جميع المساطر والإجراءات ، فإذا ثبتت الإدانة بعد كل هذا فهذا قدر المتهم وغيره ممن ينكرون الأحكام القضائية الصادرة ضدهم كثير ، وإذا قضت ببرائته ـ ونتمناها له ـ فالقانون يعطيه الحق في مقاضاة الدولة قصد تعويضه داخل محاكم مغربية ، وفي قاعات المحاكم ، وليس في أروقة الأمم المتحدة ، ولا في قاعات الفنادق ، ولا عبر وسائل الإعلام ، تلك هي ثقافة الإيمان المطلق بالقانون .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى