مجتمع

“التسول المؤنث”.. كرامة تُهدر أمام المساجد

بجسدٍ نحيفٍ أعياه الزمن، وبكلماتٍ متلعثمةٍ لا تكادُ تُبين حين يَجتمع الدمع في مقلتيها، تحدثت راضية عن تجربتها في التسولِ أمام المساجد، قائلة “أنا لم أختر هذا المجال، ولم أحب أن أقف في هذا الموقف الذي لا أريد لأي إنسان أن يعيشه في أي يوم”.

“راضية” عَلتها حالةُ حزن حين أخبرتنا أنها أرملة، ثم انتصرت عليها ابتسامة خفيفة وهي تقول “لقد أكملت الستين من عمري هذه السنة”، واسترسلت “توفي زوجي منذ اثني عشرة سنة، ولم يَترك لي أي شيء، لأنه أصلا لم يكن يعمل إلا في أحيان قليلة، كان في أغلبها يعمل حارس سيارات في منطقتنا السكنية بمدينة تمارة”.

القِبلة هي المساجد..

المسجد بالنسبة لي أفضلَ مكان، إذ أصلي قبل أن يبدأ ملبو نداء “الله أكبر” بالوصول، أو عقب انتهاء الصلاة، وهو مكان أرجو فيه أن يتعاون الناس معي بشكل أكبر، هكذا توضح راضية سببَ اختيارها للمسجد لطلب الصدقة والإحسان.

أما فاطنة، والتي وجدناها تجلسُ القرفصاء أمام باب مسجد “ديور الجامع” بالرباط محتضِنة العنقود الأخير، وبعينين ذابلتين تحكي أنها اختارت على مَضض التسولَ أمامَ المساجد بعدما ضاق بها الحال، وأنّ تسولها هو آخر قشة تتشبث بها لإنقاذ أسرتها من التشرّد في هوامش سلا بسبب قلة ذات اليد.

البديل..

راضية تقول إنها بحثت عن البديل للإقلاع عن هذه الممارسة المذلة برأيها، من خلال إعداد الأوراقِ المطلوبة للاستفادة من برنامج الحكومة الخاص بدعم الأرامل، غير أنّ حلمها تَبخر عندما أخبروها أنه لا يمكنها الاستفادة لأنه لا أولاد لها، إذ لَم يُكتب لها أن تنجب خلال فترة زواجها، كما تقول.

قبل دفع هذا الطلب وبعده بسنوات قليلة، كنتُ أبيعُ بعض الملابسِ الخفيفةِ والداخليةِ في الشارع، توردُ راضية،  لكنني لم أستطع الاستمرار، فلم يكن هذا النشاط يُدرّ عليّ دخلا يكفيني.

أما فاطنة، وهي امرأة تجاوزت عقدها الرابع، وأم لسبعةِ أطفال، وزوجة لمياومٍ أقعده المرض منذ سنتين، فتعزو عدم اشتغالها بعرق الجبين لإصابتها على مستوى الكتف، ما حال دون قدرتها على الكسب كعاملة نظافة أو ما يشبهها من مهنٍ تحتاجُ لجهد بدني وقدرةٍ على التحمل.

وتنفي فاطنة، اللجوء إلى أساليب النصب والاحتيال، لطلب المساعدة من المصلين، أو اختلاق الأكاذيب للتأثير في عواطفهم، حتى يكونوا أكثر سخاء في المن عليها بالمال.

يد تعطي..

لحظة خروجه من بابِ المسجد، أخرجَ أحمد دريهمات من جيبه ليَمنح بعضها لأحدى المتسولات التي كانت تستجدي عطفَ المصلين، التي بادلته الدعاء بموفور الرزق والعافية.

وعن رأيه في تفشي ظاهرة التسول لاسيما أمام المساجد، اعتبر أحمد أن هذه الظاهرة باتت فعلا تؤرقُ بال المصلينَ أثناء أداءِ الصلاة في المسجد، وهي في نظره تشكل في كثيرٍ من الأحيان إحراجا لهم، خاصةً عندما يتعلقُ الأمرُ ببعضِ الحالاتِ الإنسانية المؤثرة.

وبرأي أحمد، فإن أسباب انتشار هذه الظاهرة، تعود أساسا إلى غيابِ برامج حكومية لاحتضان مثل هاته النسوة، اللواتي لا يجدن بُدا من التحلق أمام أبواب المساجد أملا في عطف المؤمنين، وهو ما جعله يؤكد أنه بات من الضروري أن تبادر الحكومة إلى إيجاد حلول ملائمة للحد من هاته الظاهرة، التي صارت تسيء بحسبه إلى صورة المسجد.

مصل آخر، اعتبر أن كثير من النسوة لجأن إلى امتهان هذه الحرفة، ليس من باب الحاجة وقلة ذات اليد، بل من باب النصب والاحتيال، معتبرا أن كثيرا من المتسولات من أمام المساجد لا يجدن غضاضة في استعمال وسائل غير مشروعة لتحقيق مآربهن من قبيل استغلال الأطفال، أو الزعم من أنهن يعانين من أمراض مزمنة.

عطاء وأخذ..

لا توجد أرقام رسمية حول عدد المتسولات في ربوع المملكة، لكن يكفي بسط النظر أمام غالبية المساجد لترى بأم العين مدى اتساع وانتشار هذه الظاهرة، إنّ الأمل ليحدوا كل ناظر لتلك المشاهد، أن تختفي تلك العيون المنكسرة والأيادي الممدودة ومشاهد الكرامة المهدرة، وهو أمل ممكن التحقق، حين يُعاد طرح السؤال الأصل، المتعلق بسبيل إيصال حق المواطن في الوطن، وأيضا بسبيل الوصول لعدالة اجتماعية شاملة وحقيقية؟، حين نجد الجواب، سنجد أن العيون التي تأخذ بانكسار وألمٍ أصبحت تأخذُ بعزةٍ وشموخ، تأخذُ حقوقا وتؤدي واجبات، في دولةٍ كرامة المواطنِ فيها فوق كل الحسابات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى