خيرية عين الشق بالبيضاء…ذاكرة للتخريب والنسيان

كثيرون من أبناء عين الشق لا ينظرون إلى الخيرية، باعتبارها فقط مجرد بناية آوت بين جدرانها أجيالا من المحرومين، بل باعتبارها معلمة تاريخية شكلت النواة الأولى لحي عين الشق، الذي ظهر منتصف أربعينات القرن الماضي، أي بعد سنوات على تشييد الخيرية في 1927 زمن الحماية الفرنسية. خلال هذه الفترة لم تكن منطقة عين الشق سوى خلاء ممتد تابع لأراضي قبيلة أولاد حدو، لا تخترقها سوى طريق مديونة الذي شيدت الخيرية على بعد أمتار منه في موقع عد إستراتيجيا بالنظر إلى وجوده خارج المدار الحضري الآخذ في التوسع آنذاك، خاصة بعد ظهور ما سمي «المدينة الجديدة» وحي الأحباس المحيطين بالقصر الملكي ليشكلا النسيج العمراني المعروف حاليا بدرب السلطان، والذي كانت تفصله عن عين الشق مساحات شاسعة من الأراضي والحقول تنتهي بربوة عالية شكلت موقعا إستراتيجيا لبناء الخيرية ومرافق أخرى، في ما بعد، استفادت من علو الموقع أبرزها مقر محطة الإذاعة والتلفزيون الجهوي بالبيضاء.
على المدخل الجنوبي للبيضاء المعروف بطريق مديونة، كانت هناك نقطة كيلومترية عرفت لدى قدماء البيضاويين ب»القامرة»، في الموقع الحالي لتقاطع شوارع محمد السادس والمنظر العام والوحدة الإفريقية، اتخذت منها سلطات الحماية نقطة تفتيش لكل الوافدين على البيضاء من القرويين المتحدرين من البوادي المحيطة بها، الذين كان بعضهم يخضع لفحوصات طبية ورش بمبيدات لطرد أوبئة محتملة، وإن اقتضى الأمر في بعض الأحيان منعهم من النفاذ إلى داخل المدينة إذا اشتبه في أمرهم. وسط هذا المجال الممتد وقع اختيار إدارة الحماية على مساحة أرضية شاسعة تبلغ ستة هكتارات وتعتلي مرتفعا يطل على طريق مديونة، وقريبا من «قامرة» عين الشق. المساحة الأرضية الشاسعة لموقع الخيرية جعلت بعض المتتبعين لتاريخ التعمير بالدار البيضاء، يطرح احتمال ألا تكون تلك المساحة قد تم تحديدها من أجل مرفق خيري، بل من أجل مرفق عسكري أو ما شابهه قبل أن يتم اتخاذ القرار بتحويلها لخيرية في آخر احظة.
وقبل تشييد خيرية عين الشق، كان يتامى البيضاء ومحروموها يغشون مرفقين خيريين الأول بمنطقة البلدية بدرب السلطان، حديث النشأة آنذاك، قبل أن يتحول إلى مركز لحفظ الصحة قريب من الموقع الحالي لسينما موريطانيا بقيسارية الحفاري، أما الثاني فعرف بخيرية بياضة بطريق مديونة قرب القصر الملكي، وهو المرفق الذي أفرز، سنوات قليلة بعد تأسيسه في 1924، تجربة فنية رائدة بالمغرب عرفت باسم «جوق الميتم البيضاوي» الذي كان يرأسه الراحل محمد زنيبر وأشرف من خلاله على تأطير مجموعة من نزلاء تلك الخيرية ومرتاديها الذين سيصير لهم شأن كبير في مجال الغناء والموسيقى منهم الراحل صالح الشرقي وعمر الطنطاوي وعازف الكمان محمد سميرس وبوبكر الطالبي وغيرهم.
ويقول عبد الرحيم ناصف ومصطفى ستيتو، نزيلان سابقان بخيرية عين الشق، في كتاب مشترك لهما بعنوان «سيرة المهجرين بين الأسماء»، إن تأسيس الجمعيات الخيرية خلال فترة الحماية من قبل بعض الأسر المخزنية، كان الهدف منه بالدرجة الأولى تربية أبناء أعيان المغرب، لذا بمجرد تأسيس الجمعية الخيرية الإسلامية لعين الشق، فقد اعتمد فيها نظام تعليمي مزدوج يعتمد مواد متنوعة لتدريس اللغتين العربية والفرنسية والرياضيات ومادة شرعية تختص بالعبادات والقرآن وباقي العلوم العصرية، كما أن المدير التربوي كان يتم اختياره من بين الأطر الفرنسية أشهرهم «مسيو بيني» الذي تحتفظ ذاكرة الخيرية الجماعية بالعديد من إنجازاته في سبيل أبنائها.
لحظة ميلاد خيرية عين الشق ووضع المقيم العام الفرنسي، آنذاك، ثيودور ستيغ، على رأسها ثلة من الأعيان أغلبهم كانوا ضمن المجلس البلدي، كالحاج عابد السوسي، وهو واحد من أكبر أثرياء المدينة، وبوشعيب الأزموري، وفي ما بعد التحق بهم الحاج محمد التوزاني صاحب الضيعة المشهورة التي كانت تحتل جزءا كبيرا من حي إفريقيا حاليا، وبمحاذاة طريق مديونة على بعد أمتار من الخيرية، التي سيشرف عليها وستتحول إلى فضاء لاستقطاب الأطفال الأحوج إلى معاملة دراسية صارمة، لذا كان العديد من النزلاء يتحدرون من أسر غير معوزة، لأن أسباب النزول لها ارتباط بالجانب التربوي وليس بالجانب الاجتماعي. في نهاية الموسم الدراسي، كان يحضر المقيم العام الفرنسي فيقدم النزلاء أمامه معزوفات وأناشيد ومسرحيات، قبل أن يوزع المسؤولون جوائز على المتفوقين دراسيا، وهو ما كان يتيح للذين حصلوا على معدلات جيدة فرصة الاستفادة من المخيم الصيفي.
خلال الفترة التي سيشرف فيها الحاج عابد السوسي على خيرية عين الشق بعد أن ترأس جمعيتها، خلال مطلع الأربعينات، سيحدث تغييرات جوهرية على نظامها، إذ بمجرد حصول المغرب على الاستقلال، ستتوقف الخيرية عن استقبال أبناء الأعيان وتتجه إلى استقبال أبناء شهداء المقاومة وجيش التحرير، فضلا عن أبناء الفقراء والأيتام. وتتحدث بعض الروايات الشفوية عن زيارة محمد الخامس لخيرية عين الشق، نهاية الخمسينات، فاقترح تسميتها «دار أولاد المخزن» بدلا من اسم «الجمعية الخيرية الإسلامية»، إلا أن هذا المطلب لم يجد صدى لدى حزب الاستقلال في شخص علال الفاسي والحاج عابد السوسي وآخرين الذين فضلوا أن تظل الخيرية مرفقا مستقلا عن المخزن وأجهزته، خاصة أن حزب الاستقلال بدوره كان قد اتجه لتأسيس جمعيات خيرية والإشراف عليها. ولعبت خيرية عين الشق أدوارا متعددة، على امتداد تاريخها، منها تحولها إلى مرفق لتدبير الأزمات الطارئة، كما حدث سنة 1960 حين اهتزت أكادير على وقع زلزال عنيف راح ضحيته آلاف القتلى ومثلهم من المشردين واليتامى، فتم نقل الكثيرين منهم إلى عين الشق، حيث تولى الحاج عابد السوسي أمر الإشراف عليهم، واستنجد في ذلك بالأميرة عائشة التي زارت هؤلاء من أجل تدبير موارد مالية إضافية للعناية بهم وتخصيص جناح لهم.