اعتقال سائق القطار دون غيره : “الحديث الضعيف “

محمد الشمسي
أنهت عناصر الدرك الملكي تحقيقاتها في حادث انحراف قطار عن سكته وارتطامه بجدار قنطرة ضواحي منطقة بوقنادل ، وسقوط قتلى وجرحى ، وخلص وكيل الملك إلى اعتقال سائق القطار وحده دون غيره ، بحجة أن الأبحاث أبانت على أن السائق كان من المفروض أن يسوق القطار بسرعة 60 كيلومتر في الساعة في مكان الحادث ، لكن السائق “زاغ” وجعل السرعة في 158 كيلومتر في الساعة فزاغ القطار ، وكان ما كان ….
لا أدري لماذا أجد أن الحديث عن إلصاق المسؤولية كاملة بسائق القطار يكاد يكون “حديثا ضعيفا” ، إلم يكن “حديثا موضوعا ” ، فعلى حد علمي فإن القطار يسير فوق سكة حديدية بالتناوب مع سرب من القطارات الأخرى ، وبالتالي فالأمر لا يتعلق بسياقة شاحنة أو سيارة أو حافلة على طريق واسع له ممرات ومنافذ يمكن للسائق أن يناور فيزيد أو ينقص في السرعة ويتجاوز على اليمين أو على اليسار ، فالقطارات كائنات حديدية تزحف على مسار مرسوم لها سلفا ، وهي تخضع لبرمجة دقيقة ، تعتمد على عوامل التوقيت والمسافة والسرعة والرحلة ، وهي بذلك خاضعة لنظام رقابة آلية وتقنية معقدة ، وهامش الخطأ فيها قليل وضعيف أو هكذا يفترض ، بمعنى أن سائق القطار إذا ما كان محددا له أن يسوق قطاره بسرعة 60 كيلومتر ، وعمد إلى عصيان تلك التعليمات وقاده بسرعة 158 كيلومتر أي بزيادة ضعفين ونصف للسرعة تقريبا ، فإنه سيصل بقطاره إلى المحطة الموالية قبل الوقت الإداري المرسوم للقطار ، وعليه أن يتحرك بقطاره من المحطة داخل الزمن القانوني له ، وعليه سيصل الى جميع المحطات ويغادرها قبل التوقيت الرسمي المعلن عنه ، وهو بذلك سيسبق وصول المسافرين ، وسيخرق توقيته المحدد له ، لذلك فالحديث أن السائق رفع من سرعته من تلقاء نفسه من 60 المسموح بها الى 158 هو حديث “خاوي” ، فما الفائدة التي سيجنيها سائق القطار من رفع السرعة ومضاعفتها بنسبة 200 ونصف في المائة ؟ ، هل سيجني منحة أو تعويضا إذا وصل قبل التوقيت المعين له ؟ ، ألن تضبطه إدارته وهو يربك برنامج رحلاتها بوصوله الى المحطات وخروجه منها قبل الأوان ؟ .
وقد تكون الرحلة تأخرت في الانطلاق من أصلها وهذه عادة مألوفة لدى المكتب الوطني للسكك الحديدية ، وليست حدثا عارضا ، ويكون قد طلب من السائق أن يعوض ما ضاع من التأخير ، فيزيد في السرعة ويرفعها بذلك الشكل الجنوني ، وقد تكون هذه عادة مستشرية لدى السائقين مع مكتبهم ، وقد تكون سلمت الجرات في سابق المرات ، لكن هذه المرة ضبط قطار المكتب في المنعرج ، فكان لابد ها هنا من التدقيق في مدى خروج القطار من محطته في موعده قبل الحادثة ، فإن كان قد خرج متأخرا فمسؤولية المكتب ثابتة ، وإن كان قد خرج في وقته المحدد فاحتمال ان يرفع السائق سرعته الى مرتين ونصف بإرادته مستحيلة لأنه بذلك سيصل قبل التوقيت وسيفسد على المكتب برنامج أسفاره ورحلاته، وإن ثبت أن هناك من أصدر للسائق التعليمات برفع قياسي للسرعة “بحال ديما ” ،يتوجب متابعة من أعطى التعليمات أولا ، ومتابعة من تسبب في تأخير الرحلة ثانيا ، ومتابعة من ألف تعويض التأخير في الانطلاق برفع خيالي للسرعة ثالثا .
وقد يكون للحادث علاقة بالحالة الميكانيكية للقطار المنكوب ، وخاصة على مستوى مؤشر السرعة ، وسبق وأن راجت تسجيلات بين تقنيي المكتب تتحدث عن ترهل الحالة الميكانيكية للقطار المعني خاصة على مستوى مؤشر السرعة ، بمعنى أن مؤشر السرعة لا يبين على لوحة المفاتيح السرعة الحقيقية للقطار ، فقد تكون السرعة وصلت الى 158 كيلومتر في الساعة ، لكن المؤشر متوقف على 60 كيلومتر في الساعة ، فيكون السائق بدوره ضحية وليس متهما ، ويتعين هاهنا متابعة الادارة التي سمحت لقطار معطوب بنقل المآت من الأرواح والعتاد .
وقد يكون العطب في القطار نفسه ، بعد فحصه والتدقيق في صيانته وأمد عمره ، وما إذا كان لا يزال فيه ” ما يخدم ” أم بات كومة من الحديد مكانها الطبيعي هو “لافيراي” ، فإذا كان القطار يتحمل سرعة 158 كيلومتر في الساعة ، فلم سيخرج من مساره إذا أخطأ السائق ؟ لكن إذا كان القطار معطوبا ومتهالكا ولم يعد يتحمل السير بسرعة 158 كيلومتر في الساعة ، وإن وصلها ولو لثانية ينقلب على عاقبيه ، فهذا قطار مكانه المناسب هو سوق الخردة وبيعه “للكيلو” ، ومحاكمة من يأذن لهذه الآلة الخربة في نقل الأنفس .
وقد يكون العطب في المسلك الذي وقعت فيه الحادثة ، بسبب عدم الصيانة .
لذلك فالتحقيق في حادث قطاربوقنادل يخرج عن تخصص رجال الدرك ، هناك أبحاث وتحقيقات تتطلب الاستعانة بخبراء قطارات وخبراء سكك حديدية ، وخبراء برمجة رحلات، فليست حوادث القطارات من اختصاص الضابطة القضائية العادية التي تحقق في حوادث سير الطرقات و”الشانطيات” ، وهذا تحد جديد ينضاف الى تحديات المكتب الوطني للسكك الحديدية ، وهو تكوين أطقم خبيرة ومتخصصة في تتبع الأسباب الحقيقية لجنوح القطارات عن سككها .
وفي غياب بحث تقني متخصص تبقى متابعة سائق القطار مجرد خرقة بالية نسد بها حفرة ، أو مثل من يحاول إخماد النار بالتبن والقش ، حيث يغيب لهيب النار لهنيهة ثم لا يلبث أن يستعر ويتقد ، وستتم إدانة السائق المسكين الذي نجا من الموت ليجد السجن في انتظاره ، وسيفلت المتهمون الحقيقيون من العقاب ، لكننا لم نصل بعد من الحمق والغباء ما يجعل رواية رفع السائق للسرعة مثنى وثلاث ورباع من تلقاء نفسه تنطلي على عقولنا ، فهي لا تعدو ان تكون “حدوثة ” أو لنقل “خريفة” أو بصريح العبارة ” تخربيقة” .