صلاة الجنازة يرحمكم الله ….وهي جنازة حزب….

محمد الشمسي
ليس حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية حزبا كبيقة الأحزاب ، فإن كان من حزب يستحق لقب ” الحزب التاريخي والحقيقي والشعبي والوطني ” فهو هذا الحزب الذي أضيف له وصف ” الحزب العتيد والعنيد ” ، لكن هذه التوطئة باتت جزءا من الماضي وجاز ان تسبقها عبارة “كان يا ما كان …. في سالف العصر والأوان… ” ، حيث لم يبق من “الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ” سوى الأطلال الخربة ، وبقايا أسوار ، ومدافع صدئة موجهة صوب المجهول ، وأطفال صغار يلعبون بين ما تبقى من أعمدة منتصبة شاهدة على تاريخ حزب عجز القصر عن تفكيكه منذ الستينيات وإلى أواخر الثمانينيات ، إلى أن فعل به “الرفاق” ما لم تفعله به الاغتيالات والمحاكمات .
يذكر التاريخ أن كل التقطيعات ومعها الأنماط الانتخابية التي كانت الدولة تعتمدها في السبعينيات كانت تهدف بالأساس إلى كبح جماح هذا الحزب المتمرد ، مع خلق قائمة أحزاب ” مجهرية ” مدعومة بالإعلام و المقدمين والشيوخ والقياد ثم منح مرشحيها المفترضين كل فرص التفوق الانتخابي ، في زمن كان الحديث فيه يدور حول مصطلح ” الإنزال” ، وليس ” التحكم ” كما هو عليه الحال اليوم ، كان دور تلك الأحزاب التي منها ما قضى نحبه ومنها ما يحتضر هو خلق التشويش في الحياة السياسية ، كما تفعل الفيروسات في الجسم ، والكل من أجل “فشان روايض الاتحاد”.
اذكر انه خلال انتخابات 1993 وقد كنت حينها أبلغ من العمر 21 سنة ، غير منتم لأي حزب ولا أزال وفيا لهذا الاختيار ، لكني طالب جامعي في كلية الحقوق السنة الثانية أتابع وأرقب ، كان الناس سنتها ينظرون إلى كل مرشح اتحادي اشتراكي باعتباره منتهى الوطنية وحب الشعب وباعتباره رمزا للديمقراطية و للكفاءة والجدية و ربان قارب نجاة لوطن ينزف فقرا وأمية ، كان الخطاب و اللون الاتحادي طاغيا في وقت كان فيه لكل حزب لونا ، قبل حقبة الرموز الحالية ، في الدائرة التي كنت أقطن فيها شاءت الأقدار أن أرى مرشح الاتحاد الاشتراكي وكان أستاذا جامعيا ، ذهلت لرؤية “المرشح الاتحادي” ، إنه ” من الاتحاد الاشتراكي حزب بنبركة وبوعبيد وبنجلون وآخرون ” هكذا تهامسنا سنتها ، فاز الحزب في انتخابات 1993 ، كما في انتخابات 1997 ، ونقول الفوز وليس الاكتساح ، لأن في مقصورة الانتخابات كان يقعد وزير جمع بين الداخلية والإعلام وهو وزير فوق الدستور والقانون ، وزير اسمه إدريس البصري ، ضابط إيقاع الانتخابات حينها ، لذلك يصبح احتلال الصف الأول بوجود “الحجاج بن يوسف الثقفي المغربي ” اكتساحا ، ولم يتم تعيين رئيس الوزراء آنذاك من قبيلة الاتحاديين ، وانتظر الحزب الى فبراير 1998 ، ليعين الراحل الحسن الثاني الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي وزيرا أولا في ما سمي آنذاك ب”حكومة التناوب أو التوافق” ، ولربما كان الملك الراحل قد أشعره الأطباء بقرب دنو أجله بسبب مرضه ، والأعمار بيد الله ، فارتأى بحكمته وبعد بصيرته ، أن يجري القسط الأوفر من الانتقال السلمي للسلطة تحت عينيه ، وهو الذي خبر صراعاته الطويلة و العنيفة مع عدد من الأحزاب لعل الاتحاد الاشتراكي بنسختيه واحدا منها.
تسلم الاتحاد الاشتراكي زمام الحكومة بأطر وأطقم وكفاءات كان الشعب يعلق عليها آماله لإخراجه مما هو فيه ، أو على الأقل لتحقيق ما ظل الاتحاديون يدبجونه في برامجهم ، و”يخبطون ” مقاعد البرلمان وهم في المعارضة يحتجون على الوزراء ويحرجونهم ، ويحاسبونهم بالأرقام ….. لكن لا شيء من تلك الجعجعة لمسها المغاربة ، وحتى في سنة 2002 عاد الاتحاديون للصدارة رغم خيبة الأمل الشعبية في تجربة تناوبهم ، لكنها عودة كانت مصحوبة بحمى تنذر بقرب الانهيار وبداية الاحتضار ، حيث سرعان ما تقهقر الحزب الى الرتبة الخامسة ب 38 مقعدا في 2007 ، ليصل موسم السقوط الكبير في سنة 2011 ب20 مقعدا لم تؤهله حتى لتكوين فريق برلماني ، ومع ذلك حصل الحزب على رئاسة مجلس النواب في ظروف معاكسة لقواعد الرياضيات والتاريخ والفيزياء ، وتؤكد حاجة السياسة المغربية لمضادات حيوية عاجلة .
وأما عن صحافة الحزب فكانت قوية شديدة لدرجة أن اقتناء جريدة الحزب وقراءتها في العلن يجعل من الفاعل مفكرا ومناضلا بالضرورة ، جريدة توزع في اليوم الواحد ما يفوق 100 ألف نسخة ، وكل نسخة يقرأها من خمسة إلى عشرة أشخاص في وطن يؤمن ب”القراءة التضامنية ” ، لذلك كنا نحن طلبة معهد الصحافة مسرورين في نهاية التسعينيات عندما علمنا أن أستاذ مادة “تقنيات التحرير” ، هو صحافي من تلك التجربة الإعلامية المتميزة ، ولو كنت قد استشرته لذكرته بالاسم في هذا الركن ، وهي مناسبة لأجدد له فيها التقدير والاحترام ، أليس من علمني حرفا صرت له عبدا ؟ فما بالي بمن علمني كيف أصبح صحافيا .
أما اليوم فقد شاخت الجريدة ، وتضعضع الحزب وترهل ، بعد أن خارت قوى الرعيل الأول آخرهم الأستاذ الجليل عبد الرحمان اليوسفي ، الذين منهم من انتقل إلى عفو الله ، ومنهم من خرج غاضبا من تسلل “أنفلونزا الاستبداد والمصالح الشخصية ” ، إلى حزب خبر المعتقلات وتزعم المظاهرات ، وقال كلمة “لا” للحسن الثاني وما أدراكم ما الحسن الثاني .
لم يبق في حزب الوردة سوى رجع صدى النضال ، بعد أن كفر أهله ب”تاشتيراكيت” ، ودخلوا سلطة لا يسمعون فيها لاغية ، ومشوا فوق زرابي مبثوثة ، وضرب لهم أعظم سلام ، وراحوا يكتنزون مالا لبدا ، يظنون أنه سيخلدهم أبدا ، حتى بات الاتحادي المسؤول يساق مصفد اليدين إلى السجن بتهمة اختلاس المال العام ، في حزب حكم على قياداته بالإعدام ولم يساوم ، وظهرت أسماء اتحادية في قائمة المستفيدين من “الريع” ، الذي دفع سكان الاتحاد الاشتراكي الأولون حياتهم أو حرياتهم ثمنا لمحاربته .
أصبح الاتحاد الاشتراكي ذكرى حزب ، فقد الأسنان ، وتساقطت أوراق شجرته ، ولم تعد تصلح سوى فحما للتدفئة ، وفقد الاتصال بقاعدته التي “غسلت يديها عليه” ، عانى من الانشقاقات ، وبات يعاني من تسلل سلالات ” غير اتحادية وغير اشتراكية ” ، ممن لا يؤمنون بالحزب ، بل ولا يعرفون عن أوراق الحزب ومرجعتيه وتاريخه شيئا ، ومنهم من يجهل مقر الحزب الأم هل في الرباط ام الدارالبيضاء ، وحتى ورثة الحزب وكثير منهم ” غير شرعيين” فتحوا “باب الكار” لكل من يريد الصعود ، لاسترجاع المجد الغابر ، لا فرق في ذلك بين المناضل وبين الإقطاعي والسمسار ، لدرجة أن عددا من المتتبعين نعتوا حزب عبد الرحيم بوعبيد ذات سنة ب ” اتحاد الشركات” بدل “الاتحاد الاشتراكي ” .
وبات الاتحاديون الجدد يبكون على الأطلال ، حتى إن إحدى البرلمانيات الاتحاديات تصدت لزميل لها عيّرها بحصيلة حزبها من المقاعد ، فأجابته ” نحن الفتى من يقول كان أبي …. نحن التاريخ ، ونحن الاتحاد الاشتراكي ” ، وددت لو أن لطيفة رأفت تجيبها في إبانه وتقول لها أو لهما …” كنا وكنتم ” ، أو نجيبها بعد الاعتذار لامرئ القيس في معلقته ” قفا نبك من ذكرى حزب …”
رحم الله الفيلسوف محمد عابد الجابري ، فيكفي هذا الحزب فخرا أن هذا الصرح الفكري واحد من أعضائه ، وكان عليه رحمه الله أن يكتب “نقد العقل الاتحادي ” قبل “نقد العقل العربي” ، رحم الله كل الاتحاديين الوطنيين المخلصين ، الأحياء منهم والأموات ، هلكتم وتركتم إرثا عظيما ، لكن لورثة ليسوا عناقيد من نفس “الدالية” ، رهنوا الحزب عند “خدام الدولة” ، وباتوا يتباهون على الخلق بتاريخ هم ليسوا صانعيه ، ولا حظ لهم فيه ، بل هم فقط حملة معاول هدمه ونسفه ، ولأن الضرب في الميت حرام ، ولأن إكرام الميت دفنه ، قوموا للصلاة على جنازة وهي جنازة حزب ، واخشعوا في صلاتكم وادعوا للحزب بالثبات عند السؤال من طرف التاريخ .