الرأي

هنا بنسليمان : رسالة من الطفلة هاجر ….

محمد الشمسي
يبلغ عمر الطفلة هاجر 7 سنوات ، تسكن في دوار أولاد خليفة بالجماعة القروية الزيايدة ضواحي مدينة بنسليمان ، ( حوالي 70 كيلومتر شرق الدارالبيضاء) ، توقظها والدتها فاطمة ليلا بصعوبة ، تكاد هاجر تنام وهي واقفة ، بجفنين ملتصقين ببعضهما تماما ، وتحضر لها الوالدة ما تيسر من الطعام ، وتثبت محفظتها الصغيرة على ظهرها الصغير ، ثم تنطلق الصغيرة هاجر في رحلتها المضنية والمتعبة ، نحو مدرستها ، تبعد مدرسة هاجر بحوالي 4 كيلومترات ، ولا تتوقف مشقة الصغيرة عند حاجز طول الطريق ، بل تتخطى ذلك الى وعورة المسالك ، حيث تقتحم الصغيرة غابة بخنازيرها البرية الكثيرة ، وبثعالبها ، وكلابها الضالة ، دون تجاهل ذئاب بشرية قد تجد في الاستفراد بصغيرة فرصتها …
تقطع هاجر مسافة 8 كيلومترات يوميا ، 4 ذهابا ومثلها إيابا ، تدخل الغابة مرتين في اليوم ، بالنسبة لهاجر نشرة أحوال الطقس لهذه الليلة تحمل لها عناء إضافيا ، غدا ستهطل ما يسمى في قاموس الكبار ب”أمطار الخير” ، والمسكينة لم تتلمس لهذا الخير أثرا ولا معنى ، تستيقظ من جديد ككل صباح ، زادها رئيس حكومة بلدها مشقة فوق مشاقها ، باتت تستيقظ في السادسة ب”التوقيت الحكومي” المفروض فرضا قهريا ، لكنها السابعة بالتوقيت العالمي الموافق لتوقيت المغرب تاريخيا وجغرافية ومنطقيا ، تسير هاجر البالغة من الطول حوالي المتر ونيف ، وفي الوزن قرابة 26 كيلوغرام ، بحذاء بلاستيكي صغير في حجم كأس من طين ، وقد غلفتها والدتها فاطمة بقطعة من بلاستيك أي “ميكا” ، باتت الصغيرة مثل عرائس القصب ، ظلمة الليل الحالكة لم تنجل بعد ، وهبوب رياح ممزوجة بالأمطار يعيق مسيرة الصغيرة ، وتدفق المياه في كل مكان من الطريق يجعل السير صعبا ، ورمي الصغيرة هاجر وسط هذا الطقس الموحش هو مغامرة غير محسوبة العواقب ، هناك سيول مع كل منحدر تجرف الأتربة والقش ، وعبورها من طرف هاجر مخاطرة ، قد تبتلعها ضاية أو بالوعة فلا من مغيث ، لون سماء الشتاء الرمادي القاتم يؤجل ظهور نور الصباح المضيء ، والدخول إلى الغابة في العتمة يضيف بلوى جديدة إلى بلاوي هاجر .
تصل هاجر إلى مدرسة “القرية” بدوار أولاد خليفة كما يصل متسلق الجبال إلى القمة ، مرهقة خائفة مرتعدة ، ولم يبق منها جزء دافئ أو غير مبتل ، لا تدري عند وصولها هل تحمد ربها على نجاتها أم تستجمع أنفساها لسرقة قسط راحة تائهة ، ساعة من السير الممزوج بالهلع والرعب والخوف ، وسط الظلام والماء والوحل والبرد القارس ، توشك أناملها الصغيرة أن تتكسر ، لا تعرف الصغيرة هل ترتاح من هذا السفر الشاق ، أم تنتبه لمعلمها الذي شرع في شرح درس اليوم ، لا يخيف هاجر خيوط البرق ولا جعجعة الرعد ولا الوحل ولا السيول ، ولا حتى طول المسافة أو الجوع أو العياء ، بل تخيفها جحافل الخنازير البرية التي تصول وتجول في أرجاء الغابة جماعات ، وتخفيها الكلاب الهائجة النابحة السائبة ، التي لا تقوى ذراعها الصغيرة على رميها بالحجارة ، ولا تقوى قدماها الصغيرتان على ضمان هروب آمن لها .
ما إن يعلن المعلم عن نهاية الحصة حتى تقوم هاجر لجمع عدتها وعتادها في رحلة العودة نحو الشقاء ، اختراق للغابة بصمتها المريب ، وثقل الممشى على طريق موحل ، وقافلة سحب كثيفة رابطت في كبد السماء تنذر بزخة مطرية وشيكة لن تكون إلا جارفة عاصفية ، وهاجر تركض وتركض لكن هيهات لها أن تفلت من سهام مطر لا تبقي ولا تذر ، لتتدحرج هاجر مثل نملة و تصل الى البيت ، وقد قطعت مسافة 4000 متر سيرا فوق الأوحال وتحت المياه و الرعد والبرق وبين الوديان والشعاب ، وضد الرياح ، ولا تعرف الصغيرة عند الوصول الى البيت ما عليها فعله ، تستقبلها والدتها لتدثرها بغطاء جاف يمنح جسمها الصغير البارد حرارة الحياة ، هل تلتهم لها ما يسد جوعها ، أم ترتاح من عناء سفر طويل ومخيف ، أم تنام تلبية لنداء داخلي ، أم تلعب كما يفعل أقرانها ، أم تستدفئ لها قرب كانون النار ، أم تفتح محفظتها وتطل على دروسها لتراجع ما يستحق المراجعة .

كانت هذه شهادة حية ، وشهادة معاينة ، لحياة شاقة و طويلة ، من حياة طفلة وجدت طريق العلم مظلمة مستحلية ، ووجدت كل السبل توصل إلى مسلك الجهل .
طبعا السيد رئيس الحكومة وضع ثقلا فوق جسد هاجر الصغير ، حين حكم عليها أن تستيقظ قبل الديكة ، وتسير الى مدرستها قبل تجار الأسواق الأسبوعية ، وحين جعل معاليه طفلة صغيرة هي أول من يستيقظ في الدوار كله ، و تقطع من المسافات ما لا تقوى على قطعه الخيل والبغال .
أود أن أنقل معاناة الطفلة هاجر إلى علم معالي رئيس الحكومة ، وإلى علم جميع الوزارات المنضوية تحت لوائه ، وإلى علم كل وزارة أو مجلس يعنى بحقوق الطفل ، و بالأسرة ، والتربية الوطنية ، وإلى علم جميع المجالس سواء المتعلقة بحقوق الإنسان ، أو بالوسيط ، أو بالمجلس الأعلى للتعليم ، أو المجلس العلمي الأعلى ، أو بذلك الاجتماعي والاقتصادي والبيئي أو بوزارة الأسرة والتضامن ، او بوزارة العدل ، وكذا جمعيات المجتمع المدني ، إلى رؤساء المحاكم ، والنيابة العامة ، إلى رؤساء المقاطعات والعمالات والجماعات ، الى البرلمان بغرفتيه الى الاحزاب والنقابات الى الشركات الكبيرة منها والصغيرة ، الى سكان الفيلات وسكان الكاريانات ، الى العلماء والى الجهال ، أقول للجميع هل في علمكم أن هاجر بنت السبع سنوات تقطع 48 كيلومتر في الأسبوع ، أي 1800 كيلومتر في السنة الدراسية ، وهي نفس المسافة الرابطة بين فاس و لكويرة تقريبا .
أيها القابعون حيث السرر مرفوعة والأكواب موضوعة ، والنمارق مصفوفة ، والزرابي مبثوثة ، هل منكم من ينصت لآهات كبيرة تفرزها هاجر الصغيرة ؟ ، هل منكم من بقي في جوفه ذرة إنسانية ، أو حبة خردل مسؤولية تجعله يرق لحال طفلة أعياها بعد مدرستكم عن مسكن والدها ، لا تستجدي هاجر منكم صدقة ولا عطفا ، بل تخاصمكم لرب العالمين ، ثم تشكو ظلمكم للتاريخ ، فيكتبكم بين ثناياه قوما غشاشين كذابين ، من نطفة أمشاج شريرة ، تسرقون أحلام الصغيرات ، وتقدمنهن قرابين للجهل والفقر ثم تغضبون لهن غضبة الشياطين .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى