الرأي

القضاء الذي ننحني إجلالا لأحكامه …

محمد الشمسي
شدني مقال لعضو في نادي قضاة المغرب نشرته جريدة “هيسربيس” الإلكترونية ، عنونه صاحبه ب ” قضية احترام الأحكام القضائية …دروس بيداغوجية ” ، فأما عن الإشادة بقرار سقراط تقبل حكم المحكمة عليه بتجرع السم احتراما لحكمها، فالتاريخ اعتبر سقراط بعد ذلك الحكم شهيدا ، والشهيد في القاموس من قتل أو اغتيل ظلما على يد ظالم غاشم ، لذلك تعتبر محاكمة سقراط والحكم عليه بالموت مسموما وصمة عار في جبين قضاء أثينا ، وقد كانت محاكمة سقراط مثالا حيا على تسخير القضاء من طرف الفئة الحاكمة لأجل تصفية المعارضين ، وسقراط ذهب ضحية حقد الفئة الماسكة بزمام الحكم ، التي رأت في خطاب الرجل البالغ من العمر 70 سنة حينها خطرا على مصالحها ، وعليه كانت انطلاقة المقال خاطئة عندما اعتبرت “قتل سقراط ” محاكمة ، سيما وأن الحكم على سقراط اعتمد على تصويت عامة من المواطنين ، وليس على صك حكم معلل مستند الى قانون ، وأما استيراد تجارب قضاء وفقهاء فرنسا فلا مقارنة مع شساعة الفارق ، وأما الجهل والأمية التي يرمي بها المقال عامة الناس ، ويراهم قوما يرغبون في فهم ما هو فوق إدراك عقولهم الجوفاء ، فالجهل ظاهرة متفشية حتى في صفوف النخبة ، ولعل جهل النخبة أفظع ، مع فارق بين الجهل والتجاهل ، والأمية وعمى البصيرة ، فمن أوصل البلد إلى قمة التخلف الذي هي عليه غير الطبقة “المتنورة والمتعلمة” ؟ ، وإذا كنا بصدد أن نفرض على عموم الناس التسليم بأحكام القضاء، باعتبارها صادرة عن سلطة مستقلة ووفق معايير تقنية لا يفهمها العامة من أهل الجهل ، فإننا مطالبون أن نوضح لهؤلاء العامة الفرق بين حكم قضائي صدر بالحبس الموقوف التنفيذ وبغرامة زهيدة ، في حق متهم متابع بجناية اختلاس الملايين بل الملايير من المال العام وضخها ضمن ثروته ، والحكم بثلاث سنوات سجنا نافذا على لص سرق هاتفا نقالا ، أو الحكم على صحفي بأدائه تعويضا لمتضرر من مقال بالسب والقذف بملغ 6.000.000 درهم ، مقابل الحكم على المتهم بالقتل العمد بأدائه لأهل الضحية مبلغ 70.000 درهم ، كيف لهؤلاء الجهال الأميين أن يفهموا أن جنحة تتعلق بانتزاع حيازة عقار شهد فيها 13 شاهدا لمصلحة المتهم بالحيازة الهادئة ، وفي مجلس القضاء ، وشهد لغريمه الطرف المدني شاهدين أحدهما له نزاع ثابت مع المتهم وثانيهما بعيد عن العقار ب20 كيلومتر ثابتة بمحضر معاينة رسمي ، فتدين المحكمة المتهم وتحكم عليه بالتعويض والغرامة وإرجاع الحالة الى ما كانت عليه ، وتتكرر فصول السيناريو أمام محكمة الدرجة الثانية التي تؤيد الحكم الابتدائي بدم بارد ، ويتم نزع الأرض من حيازة المتهم وتسليمها إلى طالب التنفيذ باسم جلالة الملك وطبقا للقانون ،و أمام أعين ساكنة الدوار الذين شهدوا للمتهم بالحيازة ، ولا يظهر الحق إلا من محكمة النقض التي استغربت لترجيح المحكمتين الابتدائية و الاستئنافية لكفة شاهدين متنازع فيهما على 13 شاهدا لا منازعة حول شهاداتهم ، وغيرها من الأمثلة كثيرة ليس فقط في المجال الجزائي بل في التجاري والمدني والاجتماعي ، تؤكد أن محاكمنا في أحيان كثيرة تخرق قواعد القانون ومعادلات الرياضيات والفيزياء والكيمياء لتقول بأحكام مهما نزل مؤشر الجهل في صفوف هذا المجتمع فإنها تستفزه بمنطقها الغريب عن قواعد المنطق ، دون أن نغفل ما يثار من حين لآخر من أخبار اعتقال قضاة في حالة تلبس وهم بصدد عرض عدالة استأمنوا عليها للبيع ، ولمن يدفع أكثر ، يجعل من الصعب علينا ان نقنع معشر الجهال الأميين أن ما سبق وأصدره هؤلاء الغشاشين من القضاة ـ وهم قلة ـ هو فعل أو حكم يستحق الاحترام والتقديس .

لأخلص وأقول إن القضاء الذي نثق في أحكامه ثقة عمياء ، يجب عليه كلما بادرنا نحن معشر الجهال إلى التشكيك في مصداقية أوراقه ، إلا وانبرى لنا و أقنعنا بحيثياته وتعليلاته ، وفلسفته في تحقيق العدالة ، حتى نغرق في خجلنا من جهلنا ، ونذوب في ثوبنا ، أما القضاء الذي يصدر أحكاما تشبه صورا كاريكاتيرية ساخرة ومضحكة مبكية ، يرى في محاكمة سقراط عدلا ، ويخفي تبعيته وهشاشته خلف رمينا بجهل صناعة الأحكام ، ورغم ذلك يحكم علينا أن نقدم له فروض السمع والطاعة ، فهذا يبعدنا عن سلالة البشر من ذوي العقل ، ويقحمنا في خانة عجول يرعاها راعيها على مزاجه ، ويهش عليها بعصاه كلما خرقت قانونه ، قد نختلف في شكل الاحتجاج وأسلوبه ، لكن لا نجادل في الحق في الاحتجاج ، إنه أول درس من الدروس البيداغوجية التي علينا بسطها للناس من حيث الشكل ، قبل الغوص في الموضوع بلغة القانونيين .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى