إدانة بوعشرين : الحقائق المفترى عليها

محمد الشمسي
عندما أدانت غرفة الجنايات بمحكمة الاستئناف بالدارالبيضاء المتهم توفيق بوعشرين ب12 حبسا نافذا مع الغرامة والتعويضات ، ظهر نوعان من ردتي الفعل ، القاسم المشترك بينهما هو تطرفهما وتخطيهما لخط الاعتدال والوسط ، أولى ردة الفعل كانت على لسان دفاع المطالبات بالحق المدني أو لنسميهن ب” الضحايا” ، البعض من هؤلاء المحامين تناسى على ما يبدو أن دوره في الدفاع عن موكلاته محكوم بقانون يؤطره ، وأن تعليقه على منطوق الحكم لا يجب ان يخرج على سكة ذلك القانون ، لكن من فريق دفاع الضحايا من أبان عن كمية من الغل والحقد على المتهم ، حد تصريحه أن عقوبة ال12 سنة من الحبس النافذ لا تجبر الضرر ، وكأني به يريد أن يقول : ” 12 عام ما قادانيش فيه ، ومتبردش ليا غدايدي فيه ” ، ربما كان الأجدر بهكذا تصريح أن يصدر عن إحدى الضحايا لما تركه سلوك المتهم على نفسيتها من أثر ، وعلى حد علمي فليس من مهام المحامي ان ينوب عن موكله حتى في تقدير مشاعره ، ويتألم مكانه .
وثاني ردة فعل متسمة بالغلو والانحياز، هي تلك التي توالت من شيعة المتهم ، عن طريق رشقهم القضاء بعدم الاستقلالية وتسخيره لإرضاء جهات خارجية ، وأن اعتقال المتهم هو بسبب مقالاته المنتقدة للأنظمة الخليجية ، وربط محاكمة متهم اقترف أفعالا جرمية ثابتة وموثقة بالصوت والصورة ، بجرائم الصحافة وبحرية التعبير وبحقوق الانسان ، وكأن النساء ضحايا المتهم لسن من سلالة هذا الإنسان صاحب تلك الحقوق ، وكأن النساء الضحايا جئن من الخليج للإيقاع بالمتهم ، وبرزت مرة أخرى و أمام الكاميرات والميكروفونات وفوق الموائد المستديرة فئة من عشيرة الصحافة والسياسة والحقوق يُصفّون حساباتهم مع الدولة بركوب موجة ملف بوعشرين ، وقال كل واحد منهم ما استطاع قوله ، وغابت الحقيقة وحضرت الهواجس .
في هذه الجريدة ، وفي هذا الركن بالتحديد ، كنت قد توقعت أن تتراوح عقوبة المتهم بين 10 و 15 سنة من الحبس ،بحسب ما بات متوفرا من المعلومات لا سيما بعد ظهور نتيجة الخبرة التقنية على الفيديوهات ، وثبوت سلامتها من الفبركة والتصرف فيها ،( تفضلوا بالاطلاع على العمود الصادر بتاريخ 12 شتنبر 2018 في نفس الجريدة الالكترونية ) ، وبتحديدها في 12 سنة من الحبس تنفست شخصيا الصعداء ، لأني خشيت أن يكون هناك ظرف تشديد لا علم لي به فترفع المحكمة العقوبة الى ما بين 15 و 20 سنة من الحبس ، ولأني لا أتمنى الحبس والمرض حتى للعدو .
لسنا هنا لنتقوقع مع هذه الجهة أو تلك ، بقدر ما نسعى الى ركوب صوت الحكمة ، ونعوذ بالله من شر العاطفة ، فالسيد توفيق بوعشرين صحافي مقتدر ، وهو مالك قلم حديدي ، وهو صوت من الأصوات الجهورة بالحق ، وهو رجل أعمال ناجح في عالم الصحافة ، وهو أكثر من ذلك أديب في ثوب صحافي ، يطوع اللغة ، ويروضها فيصنع منها ما يشاء من الصور البلاغية التي يسمي بها الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي المغربي ، هذه حقيقة لا ينكرها سوى جاهل بالرجل ، أو حاقد عليه ، أو حاسد له على نجاحاته ، لكن القضية التي نحن بصددها لا تمت الى صحافة الرجل في شيء ، فالرابط الوحيد بين التهم المنسوبة للرجل ومهنته هو أن تلك الجرائم اقترفت في مقر جريدته ، بل في قلب مكتبه ، وهذا ما تبين للمحكمة وهي تكون قناعتها وفق ما عاينته في تلك الفيديوات الكثيرة ، لذلك كانت محاولات الزج بمهنة الصحافة في ملف جنائي خالص ، فيه تجن على المهنة من جهة ، وفيه سبق إصرار وترصد لخلط ما لا يمكن كيميائيا خلطه من جهة ثانية ، في محاولة للتأثير على المحاكمة .
وأذكر هنا قضية الصحافي تيسير علوني الذي كان صحافيا في قناة الجزيرة وما أدرانا ما قناة الجزيرة ، حين تم ضبط صلته بتنظيم يصنفه العالم أجمع في خانة الإرهاب ، وهي صلة تجلت في معاملات بنكية وغيرها من الصلات التي تجعل من الصحافي الكبير تيسير علوني منتميا لتنظيم إرهابي ، فكان أن أدين بعقوبة 7 سنوات سجنا أمام القضاء الاسباني ، لنخلص أن اقتراف صحافي مهني لأفعال جرمية بعيدة عن نشاطه الصحفي هو أمر وارد ومتوقع ، وأن ممارسة فعل الصحافة لا يمنح الصحافي عصمة ولا قدسية ، وأنه لا يجوز مطلقا محاولة تهريب الصحفي من المحاكمة عن طريق التهويل وربط كل انحرافاته بمهنته ، فالصحافي هو إنسان تسري عليه نواميس طبع الإنسان من خطأ وصواب .
عموما أنهى القضاء الشوط الأول من المحاكمة ، وقال كلمته وفق ما بين يديه من وثائق وما راج أمامه ، وما اقتنع به ، وأعود للتأكيد على أن المحكمة كانت رؤوفة بالمتهم بوعشرين عندما لم تحكم بإغلاق مقر جريدته باعتبار مقر الجريدة هو مكان اقتراف الأفعال الجرمية موضوع الإدانة ، لكن التشفي في مصير المتهم ، والتمني له الأسوأ من طرف دفاع خصومه هو سلوك غير حضاري ولا إنساني وغير مهني ، وهي تصريحات لا تروق أهل العقل ولا تلائم أنبل وأسمى المهن المحسوبة على” أهل الحق” ، ثم إن محاولة صباغة المحاكمة بلون رمادي قاتم ، غير لونها الأبيض الأصلي الواضح وضوح الشمس في طقس يوم جميل ، هو تجن على محاكمة كانت عادلة ، وتم فيها الاستعانة بخبرة تقنية ، ومنحت لجميع الأطراف من الوقت ما شاءوا ، ورافعوا بما شاءوا ، وقالوا من القول حتى ما لا علاقة له بالملف ، واستغرقت المحاكنة قرابة 86 جلسة بين علنية وسرية .
نقول إن استقلال القضاء وتمتينه وتقوية دعائمه ، ليس من مهام القضاة وحدهم ، عن طريق إنتاج الإنصاف قبل إنتاج الأحكام ، بل هو من مهام الخصوم وغيرهم من المتتبعين كذلك ، عن طريق قبولهم و تقبلهم تلك الأحكام ، وسعيهم إلى الطعن فيها بواسطة المساطر المشروعة والقانونية ، وإن كان من حرية في نقد تلك الأحكام ، والتعليق عليها ، فوجب ان يكون النقد أو التعليق حصرا على أهل الاختصاص ، ممن يعون ماذا يقولون ، بما يحفظ للحكم هيبته ، وللهيئة مصدرته الاحترام الواجب لها ، وإلا فإننا نهدم القضاء الذي نحاول بناءه بتعليقات شاذة ، ونمس باستقلاليته التي ننشدها بنقد قريب إلى السباب والإهانة .
فعلا ما أقسى أن يغيب شخص أبا كان أو أما ، صحافيا كان أم إسكافيا ، خلف القضبان لمدة 12 سنة ، يغيب عن أولاده وزوجته ووالديه وأقاربه وأصدقائه ، وعن مشروعه في الحياة ، يعيش محنة العزلة في زنازن باردة وموحشة يحكمها قانون شتان بين أوراقه وواقعه ، لكن ما أقسى كذلك مصير الضحايا ممن تحولت حياتهن الى كوابيس وشماتة الشامتين ، بعد ورود أسمائهن وصورهن في تلك المشاهد ، التي منهن من انغمست فيها عن سابق علم و رضى ، ومنهن من كانت مكرهة على فعل ذلك ، وذلك ما دندنت من أجله المحكمة ، حين برأت ذمة المتهم من الاتجار في البشر مع بعضهن ، وأدانته بذات التهمة مع البعض الآخر من هن .
اذا كان عامة الناس يميلون حيث مصالحهم تميل ، ويصدرون أحكاما قطعية بلا وقائع ولا ويقين ، فإن أولي الألباب يستحيل في حقهم ذلك ، وعجبا لمن لم يسبق له أن قرأ محضر النازلة ولا شاهد مقطعا من تلك الفيديوات ولا سبق وان دخل المحكمة من قبل ، أن يدلي برأيه حول محاكمة شهد فيها شهادة زور بواح .