هناك أكثر من قرينة وأكثر من استنتاج ، يجعل ثمة قراءة أخرى لما تعرضت له فرنسا من هجمات ارهابية متتالية ، قراءة ترجح كفة العمل الاستخباراتي الممنهج ، وهذه القراءة لا تعني التشفي في القتلى ، ولا تشكك في مقتلهم ، ولا تعني دعم الهجوم المتوحش الذي قاده مراهق وبعض الشباب ، فرضية أن العمل الاجرامي مدبر سلفا تجد سندها ومبررها في اكثر من وجه ، لا أتحدث هاهنا عن تجول المسلحين بأسلحة ثقيلة ورشاشات في شوارع باريس المراقبة باجهزة كاميرات ترصد حتى الحشرات ، ولا أتحدث عن كيفية حصول المسلحين على أسلحتهم تلك ، والدخول بها إلى فرنسا ببساطة ، وكأن باريس هي بنغازي أو صنعاء أو دمشق أو بغداد ، خاصة وان فرنسا شهدت استنفارا أمنيا سبق الهجمات باسابيع فنشرت أعدادا من قوات الامن بمختلف مفاصل الدولة وفي باريس على الخصوص ، ولا أتحدث هاهنا عن نزول المسلحين من سيارتهم وشروعهم في إطلاق النار وكأن الأمر يتعلق بمشهد في فيلم سينمائي ، في غياب تام لقوات الأمن الفرنسية ، التي تتحرك بسرعة فقط لأجل إنقاذ قط عالق فوق عمود كهربائي ، أو في شرفة منزل ، لا أتحدث عن الاختلاف البين في السيارة التي أقلها المنفذون وتلك التي زعمت القوات الفرنسية حجزها ، ولا أتحدث عن تراخي قوات الأمن الفرنسية بمختلف مشاربها بتقنياتها في اعتقال مراهقين هاربين من قبضتها ، وتركهما لاقتراف المزيد من العبث في ما يشبه المسرحية المحبكة السيناريو ، و لا أتحدث عن السر في عدم إصابة أي من المسلحين لحظة مهاجمتهم لمقر الصحيفة الاسبوعية ، وخلو مدخل الصحيفة من حراسة أمنية مشددة معززة بكاميرات مراقبة ترصد جنبات الشوارع المجاورة لمقر الصحيفة ، وتجعل طاقم الجريدة يرصد المسلحين وهما يطلقان النار في الشارع ، ويمنح الطاقم هامشا من المناورة والفرار والتقليل من عدد القتلى في صفوفه ، لا أتحدث وكأن طاقم الصحيفة تم إعداده في قلب السيناريو ليكون صحافيوه قرابين تزف في خطة خبيثة الوسائل و خبيثة الاهداف ، لا أتحدث عن تزامن الهجوم على الصحيفة باحتجاز رهائن آخرين في أماكن متفرقة ، على اعتبار أن تأهب الشرطة والجيش والدرك في فرنسا يجعل القيام بعمليات مماثلة في أوقات متقاربة شبه مستحيل ، لا أتحدث عن تعمد الإجهاز على المنفذين للعملية بقصد أو بدون قصد لكي يتم دفن السر في القبر ، وتستأثر المخابرات بالمعلومة ليجري استثمارها حسب الطلب، لا أتحدث عن تفضل أحد المنفذين للهجوم بتركه بطاقة تعريفه الوطنية في السيارة ، ولا أتحدث عن تسليم احد المنفذين نفسه لقوات الامن طواعية ، فإذا كان المنفذون إرهابيون من أتباع القاعدة او داعش ، فإنه يفترض في هذا الصنف من البشر أن يكون تواقا الى “الشهادة ” وحريصا على ألا يتم القبض عليه حيا لئلا يتم نزع اعترافات منه قد تضر ب”إخوته ” ، فإن تنفيذ العملية باحترافية لا يتوقف على مجرد قنص الضحايا ، بل إعداد العدة للنجاح في المهمة ، ومن ذلك ألا يحمل المنفذ بطاقة تعريفه الوطنية ولا أية وثيقة كاشفة لهويته يوم تنفيذه للعملية ، وأن تكون “الشهادة ” هي نهاية المنفذ ، وليس تسليم نفسه ، لذلك تحتاج رواية العثور على بطاقة التعريف لاحد المنفذين وتسليم منفذ نفسه للشرطة طوعا تحتاج منا الى قدر كبير من الغباء والبلادة لنصدقها ، لا أتحدث عن هرولة رئيس الدولة الفرنسية الى مكان الحادث في قال من ساعة ، دون خوف من وجود قنبلة مزروعة تنتظر قدومه أو قدوم “صيد ثمين ” ، حيث وصل السيد هولاند الى مكان الحادث ربما قبل بعض المحققين وهو مطمئن بأن المكان أمان ، حتى أن وصوله مرفوقا بحراسه وطاقمه قد يتلف بعضا من معالم الجريمة ، لا أتحدث عن تنفيذ عمليات اراهابية في فرنسا دون غيرها من دول اوربا ومن طرف مسلمين ، وكأن المسلمين لا يجدون الا في فرنسا دون باقي دول اوربا ، ولا أتحدث عن تضارب الاخبار بين ما نسب إلى أحد المنفذين الذين لقوا حتفهم من كونه مبعوث تنظيم القاعدة في اليمن بتنفيذ غزوته ، وبين أنباء عن تبني تنظيم داعش للعملية ، علما ان الفريقين الارهابيين من قاعدة وداعش هما في حرب ضارية بينهما ، ويستحيل توافقهما على تنفيذ عملية موحدة .
اكاد أجزم أن العمليات الارهابية التي عاشتها فرنسا هي ملتصقة التصاقا كبيرا ، بالمعطيات التالية : الربيع العربي وخشية ملكيات الخليج من اتساع رقعته و القلاقل التي تعيشها عدد من الدول العربية بما يهدد مصالح الغرب و الانقلاب في مصر وانخفاظ سعر البترول ، وأمن اسرائيل ، ولنعمل الآن على تركيب الوصفة ، فمعلوم أن العالم العربي عرف ربيعا كاسحا خرجت فيه الشعوب لتطيح بأنظمة غير شرعية ، أنظمة هي حليف استراتيجي للغرب وفر لها أسباب البقاء ، فكان ولاء تلك الانظمة للغرب بتمكينه من خيرات البلد مقابل الاستمرار في الحكم دون شرعية ، فقتل من رؤوس تلك الانظمة من قتل وهرب من هرب واعتقل من اعتقل ، وتشبث بالكرسي من تشبث ، واستشعرت الأسر الحاكمة في الخليج خطرا محذقا على عروشها ، فاختارت تلك الملكيات تقديم الرشاوى لاجل قمع وحرق ذلك الربيع ، والعمل على ترويض الشعوب الثائرة ، وإرجاعها الى حواضرها ،وبعد أن فشل علماء البلاط في إقناع الشعوب بحرمة الخروج على ولي الأمر ، وأن الفتنة أشد من القتل ، فقد حان وقت قمع تلك الشعوب بلاهوادة ، ولأن قمع الشعوب العربية سيؤجج الرأي العام العالمي خاصة الاوربي والامريكي ، والمنظمات الحقوقية ، وأسطورة محكمة الجنايات الدولية وما شابه ، فالخلطة إذن تتمثل في استمالة عطف الراي العام الامريكي والاوربي وجعله يقبل بمشاهد قمع الشعوب العربية الغاضبة من أنظمتها غير الشرعية ، ولا يمكن اقناع الراي العام الامريكي والاوربي بالخطابات وعقد الندوات ، لذلك كان التفكير في خلق مشاهد دموية شنيعة يقترفها ممثلون عن تلك الشعوب هم مسامون بالضرورة ، ليتم الترويج بأنها شعوب لا تستحق ذرة ديمقراطية ، وأنها شعوب خلقت لكي يتم قمعها ، وانها شعوب سائبة لا تعرف سوى لغة الاعتقالات والمحاكمات التي تنتهي بالاعدام أو المؤبد ، وعموما فإنها شعوب لا تستحق الشفقة ولا العدالة ولا الكرامة ، وتم تبادل الادوار بين الاجهزة الاستخباراتية الصهيونية والغربية عموما وشبه عربية ممثلة في دول الخليج ، فدول الخليج تكلفت بدفع الفاتورة ماديا عن طريق تمويل الانقلاب العسكري في مصر ، ليعمل هذا الانقلاب على خنق المقاومة الفلسطينية ، والبطش بالشعب المعارض للانقلاب ، وتتبنى تلك الدول خطابا يضع أمن اسرائيل على قائمة جدول اعمالها ، وترمي باللوم على المقاومة الفلسيطنية ويحملها تبعات الاحتلال والاجتياح ، وتستجيب الانظمة الخليجية للاملاءات الغربية ، في المساهمة في خفظ سعر البترول ، لتأديب روسيا وايران ، مع التحكم في هذا الانخفاظ ، وإسعاف السوق عند الضرورة ، ويتلخص دور الغرب في دعم الانقلاب في مصر والاعترف به والسكوت حيال جرائمه ، والترويج له باعتباره عنوانا بارزا لعودة الانظمة العربية الفاسدة ، فهو النظام الذي جعل من ضمن اولوياته عزل قطاع غزة المعزول ، وإحداث منطقة عازلة أمام صمت العالم الغربي الحر عن مشاهد تهجير قسري للسكان ، وهدم بيوتهم فوق رؤوسهم ، والغرب هنا يحقق مقولة “حليف فاسد خير من عنيد شرعي ” ،يعطي انطباعا ان كل انقلاب على شرعية هو أمر مرحب به ، ثم يتكلف الغرب ومعه انظمة الخليج ومن يدور في فلكهم من الانقلابيين ، على اشاعة أن الربيع العربي هو كلب أجرب يتوجب النفور منه ، حتى إقناع الشعوب العربية أن العيش تحت حكم فاسد غير شرعي خير من انهيار الدولة ، وانعدام الامن ، ولأقناع الشعوب الاوربية والامريكية بهذه الخلاصة ، يعمل الغرب بواسطة ترسانته الاعلامية على نشر الذعر والخوف والهلع من كل ما هو مسلم ، وتصوير هذا المسلم بأنه يتدبر أمره في اقتناء سلاح ثقيل او خفيف ويرتكب مجزرة بدم بارد ، لا تكلفه سوى صيحة ” الله أكبر ” ، وينفر العالم من هذا المسلم الارهابي العنيف التكفيري ، التواق الى هدم الحضارة الانسانية ، الذي يكد ويجد لضرب حرية التعبير ويكفر بالحق في الاختلاف ، المسلم الهمجي الذي لا يؤمن بالديمقراطية ويعتبرها زندقة وخروجا عن الشريعة ، مسلم حالم بدولة الخلافة التي مر عليها قرابة الف واربعمائة سنة ، مسلم يعيش بجسده في القرن الواحد والعشرين وفكره في القرن السادس ، مسلم يحتاج لحكام طغاة مستبدين يعيدون تربيته على المواطنة وحقوق الانسان ، حكام لا يحتاجون من الغرب سوى صمتا لكي يقتلوا من هؤلاء المسلمين ما شاؤوا وما استطاعوا ، حكام يجدون قتل شعوبهم أهون عليهم من ذبح دجاجة ، وبذلك يصبح كل شعب عربي ثائر هو مشروع تيار او جماعة ارهابية تريد اقامة دولة الخلافة وتطبيق الشريعة ، وطرد غير المسلمين وسبي نسائهم ، ويصبح كل مطالبة بالعدالة او الكرامة او احترام ارادة الشعب هو مجرد تقية للانقضاض على السلطة ،وبعد ذلك سحب السلم الى فوق ، والعودة بالوطن الى عصور الظلام ، وإعلان الجهاد على غير المسلمين ، وأسلمة الدولة أو أخونتها أو أردغنتها أو صوملتها أو افغنتها ، ويصبح الراي العام الاوربي والامريكي شغوف بالتفرج على الجيوش والشرطة العربية وهي تدهس الثوار بمدافعها وتطلق النار عليهم ، وتحرق الجثث وتهدم البيوت ، والراي العام الاوربي والامريكي يصيح ” يس يس يس كود دجوب ” .
كانت هذه هي قرائتي المتواضعة لخبايا مجزرة “شارلي ابدو” ، بعد هذه المجزرة سيتم حقن الراي العام الدولي برمته بجرعات زائدة في عداء كل ما هو اسلامي او مسلم ، وسيتم ربط الاسلام بانتاج الانتحاريين والقتلة ، وسيصبح من يدافع عن سماحة الاسلام كمن يجادل في زرقة السماء ، سيتحقق لحكام الخليج مرادهم ، وستتفوق انظمتهم على شعوبها ، وستصدر ذلك التفوق الى الانظمة العربية المجاورة ، وإن اقتضى الحال تدخلا عسكريا لإخماد كل ثورة ، فكل ثورة هي بالضرورة خيانة وسير بالدولة الى الهاوية والتفكك و استدعاء للارهاب والدمار ، ستنعم الاسر الحاكمة في الخليج بالحكم المطلق مدعومة داخليا بعلماء دين يضعون علمهم رهن اشارة الحكام في ترويض الشعوب ، ومدعومة خارجيا عسكريا وتقينا ومعنويا لاجل الفتك بكل مسيرة أو احتجاج ، وستنعم الانظمة الغربية بخيرات الدول العربية وستصلها تلك الخيرات باقل الاثمان وأحيانا بالمجان ، وسيتم فرض اسرائيل على العالم العربي قهرا ، وستفتح اسرائيل سفاراتها في جميع الدول العربية ، وترفرف نجمتها السداسية فوق رؤوس العرب والمسلمين كرها ، وقد يتم في العالم العربي تجريم إنكار الهولوكست ، بل وتجريم ذكر اسرائيل بسوء ، وستنشغل الجيوش العربية بالمناصب السياسية ، وسيقبل الفلسطينيون بدولة منزوعة السلاح على حدودها الحالية بين القطاع والضفة ، وسيتم الاستمرار في قلب المفاهيم ، مقد شرع الجنرال السيسي في ذلك عندما جمع الممثلين والمغنين والراقصات وطلب منهم تجديد الدين الاسلامي للناس في اعمالهم ، وتحولت العوالم الى عالمات ، ذاك هو الخبر الدموي الذي لم تكتبه “شارلي ابدو” التي قسفتها المخابرات وقدمتها ذبيحة لنظام عالمي جديد ، البقاء فيه للأعنف .