إذا كان المتهمون في ملف كديم ايزيك قد اقترفوا جرائم فظيعة وبشعة ، فإن المتهمين هم خلف القضبان ينتظرون العقوبة ، وإذا كان الملف في مجمله يتعلق بجنايات القتل مع سبق الاصرار والترصد وهي عقوبة قد تقود المتهم بها إذا اقتنعت المحكمة بثبوت المنسوب اليه الى الاعدام ، فإن كل هذا لا يجعل الملف يختلف عن غيره من الملفات المعروضة على المحكمة ، ولأن الملف كباقي ملفات الجنايات الوحشية فإنه يتعين ترك القضاء يناقشه في هدوء وسكينة ، مع ترك المحاكمة تسير وفق القانون ، ولعل الذي شدني في أطوار هذه المحاكمة هي أنه يتم توظيف الإعلام الرسمي لتجييش الجماهير ضد المتهمين علما أن هلاؤ أبرياء حتى تثبت إدانتهم وليس العكس ، حيث يتم الاستماع لطرف واحد وهم ذوي الضحايا أو السادة المحامون الذين ينوبون عن مصالحهم ، دون منح الفرصة لدفاع المتهمين ليدلوا بوجهة نظرهم ، التي إن لم نتفق معها فإنها تمنح للتغطية الاعلامية قيمة واعتبارا ، لكن الملاحظ أن الدولة تسخر قناتيها الاولى والثانية لخرق القانون ، عن طريق جعل ملف معروض على انظار المحكمة مادة دسمة تتابع جلساته بكثير من عدم المهنية ، فأي فصل قانوني في قانون المسطرة الجنائية يمنح للوكيل العام للملك مثلا الحق في تنوير الرأي العام بمعطيات الملف ؟ ، ولماذا يتم تسليط الضوء على هذا الملف دون غيره ؟ ، ومنذ متى كانت مهمة المحامي الدفاع عن المحاكمة العادلة خارج قاعة الجلسة ؟ ومنذ متى كان المحامي يتعامل مع الملف بكثير من العاطفة ويرد على بلاغات جمعيات تسمى مجازا ب”الملاحظة “؟ ، ولماذا لا يكتفي الصحافيون بتغطية ما يتابعونه خلال جلسات المحاكمة بل يحضرون ندوات صحافية ينظمها دفاع ذوي الضحايا ؟ .
وددت في هذا المقال أن اعود الى محاكمة مماثلة كان لي شرف حضورها كمحام ، تتعلق بمحاكمة عدد من الانفصاليين الصحراويين ، من بينهم المدعو التامك ، كان ذلك سنة 2011 بالمحكمة الزجرية بالدارالبيضاء بعين السبع بالقاعة 8 ، كان عدد من المتهمين يحضرون في حالة اعتقال ، وبعضهم يحضر في حالة سراح ، كنت ادافع يومها عن عدد من الجمعيات التي انتصبت طرفا مدنيا لما أصابها من ضرر جراء ثبوت لقاء المتهمين بالمخابرات الجزائرية وتؤامرهم معها ضد الوحدة الوطنية ، كان يوم انعقاد الجلسة شبيه بيوم حرب بين فريقين ، فريق يمثل الصف الوحدوي الرافض للانفصال ، وفريق يمثل صوت الانفصال تتزعمه سيدة تسمى اميناتو حيدرة ، كانت ساحة المحكمة تتحول الى مواجهات بين الفريقين ، وداخل القاعة كان المدعو التامك ومن معه يدخلون قاعة المحكمة يلوحون بشارة النصر ويرددون اناشيد استفزازية ، يتحدثون فيها عن “تقرير المصير ” ، ولم تكن التغطية الاعلامية يومها على شاكلة ملف كديم ايزيك علما ان الجريمة واحدة وهي خيانة الوطن ، أذكر أن المدعو التامك أساء في جميع الجلسات إلى القوات المسلحة الملكية وإلى الدولة المغربية وإلى المسؤولين المغاربة ، كان ذلك الرجل داهية ، لا يجيب عن ىسؤال المحكمة إلا بعد تصريف شعاراته ونشر رسالته الخبيثة ، كان الاستاذ الصبار الذي يشغل اليوم الامين العام للمجلس الوطني لحقوق الانسان من فريق دفاع الانفصاليين المتهمين ، ومعه محامون آخرون كنا ننظر لهم بعين الكراهية والضغينة ، دون أن ندري السبب ، فقد حلمنا ألا يجد هؤلاء “الخونة من يدافع عنهم ” ، مرت تلك الجلسات متشنجة ، وكنت لأول مرة أسمع فيها مباشرة شخصا يهين جيشي الذي احترمه ، ويهين الدولة التي انتمي اليها ، ويذكر مسؤولين كبارا بسوء ، والقاضي الاستاذ حسن جابر بهدوء غير عادي يحاول النجاح في تسيير جلساته ، أذكر أنه في إحدى الجلسات بقينا في قاعة المحكمة إلى قرب الفجر ، نجادل الانفصاليين ونحتج على التغاضي عن إهاناتهم للدولة المغربية وللوطن ، وفي الختام أطلق سراح المتهم التامك ومن معه وتم تمتيعهم بالسراح المؤقت ، ولاأعرف شخصيا المبررات …حتى إني كنت انتظر من أن يتم تعيينه رئيسا لجهة من جهات صحرائنا الحبيبة .
عندما اعيد شريط تلك الاحداث ، أخجل من نفسي وأنا بل ونحن نتخلى عن طبيعة مهنتنا ومهمتنا كمحامين وندخل في تدافع وخصامات مع دفاع المتهمين أو مع المتهمين أنفسهم أو مع الحشود التي حجت لمؤازرتهم داخل ساحة المحكمة ، كان المشهد مبكيا ، اقترفنا فيه كلنا أخطاء لا اريدها ان تتكرر في مثل هذه المحاكمات ، خاصة واني عندما اعود الى بيتي واشرع في البحث في عالم الانترنت أجد الاعداء قد أعدوا من تلك المشاهد صورا وأرفقوها بتعاليق هم وحدهم المستفيدون منها .
اليوم لا أريد لذات المشهد ان يتكرر ولو بصورة مخالفة ، لأنه يتكرر ، فعلى الاقل لم يطلع السيد وكيل الملك يومها ببلاغ او بيان الى الراي العام ، بل كلما استطاع فعله هو محاولة وضع حاجز أمني بين الفريقين لئلا يصطدمان مجددا ، تمنيت أن يكون ايقاع المحاكمة داخل قاعة الجلسة هو نفسه خارجها ، فإذا كانت هيئة المحكمة توفر للمتهمين كل شروط المحاكمة العادلة بشهادة الحاضرين ، فلم إذن يقوم البعض برمي بقع سوداء في بياض ثوب تلك المحاكمة ، سواء بتغطية اعلامية مكشوفة ومفضوحة ، قد تسيء الى المحاكمة دون ان يدري القائمون عليها ، أو بعقد ندوة صحافية لفريق ذوي الحقوق دون فريق المتهمين ، أو الاستماع لصوت واحد من بين الصوتين ؟ ، أو الإشارة بسوء لكل من يخالفنا الرأي في تلك المحاكمة .
فلندعها محاكمة عادية ، ولنبعد كاميراتنا عنها ، وليقم كل واحد بمهمته باستقلالية وتجرد دون حماسة زائدة ، أو رغبة في الظهور تحت الأضواء ، ولننتظر كلمة القضاء ، فإننا بهذا نمارس ضغطا على المحكمة ، وهذا يشكل جريمة وليس شرفا .