“حزيبات” مثل البكتيريا والفيروسات في الحجم والدور

محمد الشمسي
ساقتني الأقدار ذات يوم من ذات سنة ، إلى مرافقة صديق لي و دخول بيت رجل لم يكن لي به سابق معرفة ، شدتني صالة الضيوف الفسيحة ، وقد ثبّت صاحبها في كل أركانها صورا تجمعه بسياسيين الكثير منهم من طينة ” الشلاهبية” ، ولم أشأ أن أستفسر المضيف عن وظيفته التي نسجت له كل تلك العلاقات مع شخصيات أصنفها شخصيا في خانة “الإرهاب السياسي ” ، خاصة بعد ثبوت تورطهم في جرائم ” حرق مستقبل الوطن ” وجرائم ” إبادة حلم الشعب بسياسة كيماوية” ، لكن “مول الدار” سرعان ما رفع اللبس وكشف لنا عن نفسه من أنه أمين عام حزب من الأحزاب ، وساق لنا اسم حزبه ، وتاريخ تأسيسه ، ومحطات نضاله ، كانت أول مرة أسمع فيها عن حزب بهذا الإسم وهذا الزعيم ، وطبعا استدرك محدثنا لتبرير عدم ظهور حزبه في الساحة بكثير من المبررات التي تدخل في “علم الغميق السياسي” .
سيصاب الباحث بالذهول وهو ينقب في سجل الأحزاب المغربية ، سيجد أنه ليس صاحبنا فقط من يملك حزبا شبحا ، بل إن عدد الأحزاب الأشباح و التي لا يعرفها سوى أمناؤها العامون كثيرة ، فالثابت أن حزبين اثنين اجتازا حاجز ال 100 مقعد برلماني ، وثمة هوة تفصلهما عن الثالث الذي لم يحصل حتى على 50 مقعدا ، ثم حزبين مجتمعين يشكلان قرابة 60 مقعدا ، ثم الثلاثة أحزاب الموالية حصلت مجتمعة على 50 مقعدا ، و أن هناك 8 أحزاب فقط حصلت على أكثر من 10 مقاعد في البرلمان ، و4 أحزاب مجتمعة حصلت على 7 مقاعد ، وباقي الأحزاب وعددها يفوق العشرين حصلت على “صفر مقعد”.
ولأن المناسبة شرط ، فإن ما أثارني لتدبيج هكذا مقال هو وجود علامة سير ومرور قبالة عمارة في قلب الدارالبيضاء ، تقول ” ممنوع الوقوف : خاص بحزب….” ، وعندما بحثت في مفكرة هذا الحزب الذي يحتل هذا المكان الاستراتيجي في العاصمة الاقتصادية ، ويحرم خلق الله من ركن سياراتهم بمقربة من بابه ، وجدته حزبا من فصيلة “المجهريات” ، تلك التي لا ترى بالعين المجردة ، ولا يمكن اكتشافها إلا صدفة أو خلال حملة انتخابية ، برمز غريب ما بين حيوانات وحشرات ، ووسائل نقل تطير وأخرى تعوم ، ورموز قريبة إلى التمائم وأخرى شبيهة بسلع “البازارات” .
روى لنا أمين عام ذلك الحزب الافتراضي ، بطولات وهمية حققها حزبه و”ومناضلوه” ، وتأسف محدثنا عن تشتت الشمل السياسي والحزبي المغربي ، وعن أن برنامج حزبه يدعو إلى الاتحادات الحزبية ، وتشكيل تيارات سياسية لا تخرج عن ثلاثة توجهات ، وحكى لنا كيف “زورت” وزارة الداخلية على حزبه في زمن البصري ، وكيف حورب حزبه ، وكيف ….وكيف….، وصاحبنا بذلك كان “كيبرد على راسو” ، ولم يشرح لنا كيف أسس هذا الحزب “العقيم الباير” ، الذي هو أقرب إلى قبر منسي .
وعن سبب وصفي لهذه الأحزاب والتي يفوق عددها العشرين “حْزيِبًا” بالبكتيرية أو الفيروسية ، فذلك ليس قدحا فيها ولا سبابا ، فيكيفها ما هي عليه من أن التاريخ لا يسجلها في الحالة المدنية السياسية ، بل السبب يكمن في حجمها البكتيري و الفيروسي ، حيث يحتاج كشفها ورصدها إلى مجهر ومكبر صورة بآلاف المرات ، مثل خلايا البصل في أول درس لنا في مادة العلوم الطبيعية في مختبر ثانوية المختار السوسي بسيدي عثمان ، عندما سمح لنا الأستاذ بإلقاء نظرة من على ذلك الجهاز والإطلالة على قشرة بصل ، حيث وجدناها مفعمة بالحياة والحركة تحت فوهة ذلك المجهر .
فهي إذن أحزاب قريبة من البكتيريا والفيروسات من حيث الحجم ، وأما عن الدور فهذه الأحزاب تلعب ذات الدور الذي تلعبه البكتيريا و الفيروسات ، فهي تعيش وتتحول وتتطور داخل تعفنات الجسم السياسي ، ثم تشرع في مهاجمة المناعة السياسية للمجتمع ، مستفيدة من حالة الميوعة وإهمال الجرح حتى يتقيح ، وبعد ذلك ترسل حممها إلى كل أنحاء الجسم السياسي ، فتظهر علامات سعال سياسي ، وعلامات الحمى السياسية ، وعلامات وهن سياسي ، وعلامات تورم سياسي ، وعلامات العجز السياسي ، فهي إذن أحزاب قريبة من الفيروسات إلى البكتيريا ، فعلى الأقل اكتشف العلماء “غير السياسيين طبعا” اكتشفوا سلالة نافعة من البكتيريا ، لكن أسرة الفيروسات كلها إن لم تكن قاتلة فهي موجعة .
لم أجد لهذه ” الميكروبات السياسية” دورا يليق بحجمها ، فهل تساهم في تنشيط الدورة الدموية السياسية “الراكدة والجامدة ” ؟ ، على الأقل على مستوى رسم صورة مزيفة عن “حرية تأسيس الأحزاب” ، وما يرتبط بها من حرية ممارسة الفعل السياسي والمشاركة السياسية ، وقد نصبح يوما أمام “حزب لكل مواطن” .
في بلد عدد أحزابه يفوق عدد جامعاته وعدد أطبائه الاختصاصيين ، وفي بلد عدد أحزابه أكثر من عدد معاهده ومختبراته و باحثيه ، وفي بلد عدد أحزابه أكثر من عدد فلاسفته ، وفي وطن عدد أحزابه أكثر من عدد مسارحه ، ومن عدد مستشفياته ، يتوقف الشطر البشري من الدماغ عن الاشتغال ، وينطلق الشطر الحيواني من الدماغ في إنتاج ” التهرنيط السياسي” و ” الركيل السياسي ” ، و ” التزعريط السياسي” و ” النطيح السياسي” ، وفي بلد لا يخجل فيه “الأمناء الخونة ” في هذه الأحزاب من التاريخ ومن الضمير ومن الشعب ، والشعب بالكاد يذكر بعضهم ممن يدق أوتاد خيمته في “موسم الانتخابات” ، وقد يستأجر نفس “الكاراج” الذي يستأجره بائع الأكباش في مناسبة عيد الأضحى ، ويطبع له برنامجا “مسروقا ومنسوخا وممسوخا ” ، ثم يهيم بين الأزقة والدروب ، يعرض على الناس “رمزه ومنتخبيه وأضغاث أحلامه ” ، وسِماهُم على وجوههم من أثر البؤس و ” تابانضيت” ، ويستقبلهم الناس باندهاش وفزع ، وهم يكتشفونهم لأول مرة ، مثلما فزع الهنود الحمر عند وصول جحافل الغزاة ،لكن وككل مرة تتكسر جرة تلك الديدان التي نخرت الجسم السياسي ، ويخرجون من النزال بلا حتى “خفي حنين “، ويختفون و قد لا يؤدون حتى واجبات الكراء ل”مول الكاراج” الذي كانوا قد اتخذوه مقرا ، ولا يجمعون خلفهم “أزبال برامجهم ” ونفايات أوراقهم ، رغم أن منهم من يضع احترام البيئة في أولوية أجندته الممزقة .
تزداد صورة الفعل السياسي قتامة مع تناسل هذه الفطريات الحزبية التي لا تعدو أن تكون ” كرافانات” سياسية متنقلة ومجرورة ، تحرسها كائنات تشتغل شهرا كل خمس سنوات ، تبيع فيها “التزكيات” ، وتصنع من خلالها ضجيجا سياسيا صغيرا و”كتدور الناعورة “، ولا تحتاج هذه الأحزاب إلى أن تنسف نفسها بنفسها ، لأن “المنسوف لا يُنسف” ، و صدق من قال ” الزين يحشم على زينو والخايب على هداه الله ” فهل من هداية لهؤلاء؟ .