المباني الأثرية…تستغيث وزارة الثقافة والمفتشية العامة للمآثر بالمغرب..؟؟

في علاقةٍ بمَعْلَمٍ أثري شاهدٍ شامخٍ شهيرٍ في مدينة تازة ب”البستيون”، حصْن مَعْلَم يوجد على ما يوجد عليه من هجمة اسمنتٍ غير مسبوقة، ووضعٍ مثير لسؤال وحيرة وعجب وجنون وحديث واسع لرأي عام متتبعٍ، يخص ما يهدد واحدة من أعظم تحفِ دفاعٍ عمرانيٍ عتيقٍ تحتويه المدينة منذ قرون، معلمة تبدو من بعيد شامخة منتصبة بلونها وشكلها وحجمها لكل عابر متأمل إن من شرق البلاد أو غربها. معلمة مهددة ببناءٍ لخزان مياهٍ ضخمٍ ملامس، ما قد يكون بعواقب وخيمة على أركان وتوازن تحفة أثرية متفردة إن في قريب وقتٍ أو لاحقِ زمَان.
في علاقة بمَعْلَمٍ عتيقٍ يدخل ضمن خريطة وفسيفساء مباني المغرب الأثرية، لن أتحدث عن تجليات مَهمةٍ دفاعيةٍ ارتبطت بتازة تاريخيا لعوامل متداخلة، فقط الى أنه أثناء فترة حكم الدولة السعدية مع بداية العصر الحديث، وعلى إثر أطماع تركية في البلاد كانت قائمة انطلاقا من الجزائر، ما تطور الى احتلال اجزاء من شرقها آنذاك في اطار توسيع النفوذ بالشمال الافريقي ضمن صراع استعماري امبراطوري في حوض المتوسط الغربي. وبحكم موقع تازة المتحكم في ممر شهير باسمها، فقد أنيطت بها مهمة الحد من هذه الأطماع التي كانت تهدد أمنَ البلاد واستقرارها. وعليه، تم تشييد حصن دفاعي منيع على واجهتها الجنوبية الشرقية، عُرِف ولا يزال ب” البستيون” حصن معلمة شاهدة على وقائع تاريخية وتفاعلات، وعلى أهمية ما كانت عليه المدينة من أدوار حمائية وأمنية زمنَ مغربِ العصر الحديث.
و”بستيون” تازة هذا معلمة شامخة لصيقة بوجدان ساكنة مدينة وبهويتها وذاكرتها، تم تشييدها زمن السعديين في مكان يطل على منخفض واسع وممتد لجهة الشرق وفق انتقاء مجالي دقيق، من أجل أدوار أساسية لهذا الحصن بخلفيات تذكرها مصادر تاريخية عدة. بناية دفاعية بشكل مربع وارتفاع يصل 20 متر وبطول في جوانبها يبلغ 26 متر، برج منيع بباب يفتح على واجهته الغربية وغرف كانت مخصصة لاطلاق نيران المدافع، اضافة لمخازن مؤونة الجند وعتادهم وحاجياتهم من الماء. و”البستيون” هذا الذي كان يحتوي على خط مدفعي غير مغطى محاط ببرجين صغيرين، يعد بحق إرثا عمرانيا دفاعيا متفرداً من أهم منشآت المدينة التاريخية، ونموذجا يعكس ما شهدته العمارة الدفاعية المغربية على عهد السعديين. ولعل تحصينات تازة التي لم يكن باستطاعتها ايقاف توغل الجيوش التركية ذات التجهيز الجيد بالمدفعية على مستوى شرق البلاد آنذاك، هوما دفع السلطان احمد المنصور السعدي لتشييد حصن أكثر قوة وحداثة واستيعاباً لمدافع عدة توزعت على خطوط أمامية في مكان تم انتقاءه بدقة، جعل “البستيون” هذا بوضع منيع مساعد على القصف وفي حمايةٍ منه.
وبما أن هذه المعلمة التاريخية الشاهدة على تجليات تاريخ المدينة الدفاعي، هي بمثابة فضاء أثري يجمع كل مواصفات مركب ثقافي مفتوح في الهواء الطلق بقيمة استتيقية هامة ومتفردة. ووعياً بما تفتقر له المدينة من فضاءات ثقافية مفتوحة مؤثثة بما هو أثري مادي داعم للعروض، ووعيا برهان وحلم تازة الثقافي السياحي المنشود في التنمية المحلية، وتنفيذاً لرسالة ملكية تخص امكانية وضع حصن “البستيون”، تحت تصرف اللجنة المغربية للتاريخ العسكري، التي ستقوم بترميمه وتخصيص اعتمادات لازمة لصيانته حفاظا على طابعه التاريخي وتاهيله كفضاء ثقافي وسياحي. وتطبيقا لظهير شريفٍ مُحدثٍ للَّجنة المغربية للتاريخ العسكري رقم 1.99.266 والصادر في 3 ماي 2000، انعقد قبل أكثر من عقد من الزمن اجتماع موسع بمقر عمالة تازة، حضرته هذه اللجنة المحدثة والحامية العسكرية بتازة والمندوبية الاقليمية للثقافة والجماعة الحضرية للمدينة، وكان محور اللقاء هو تمحيص مسألة تفويت هذا الحصن للجنة المغربية للتاريخ العسكري.
وفي دورة جماعية عادية صيف 2004، ودعماً منه لرهان وأفق انعاش ما هو سياحي وثقافي واعادة تاهيل هذه المعلمة الاثرية ذات القيمة الرفيعة. صادق مجلس جماعة تازة على تقسيم الرسم العقاري عدد (10892- ف) الى رسمين، وتخصيص جزء من هذا الرسم لحصن “البستيون” مساحته 689 م2 ، ونقل ملكيته للَّجنة المغربية للتاريخ العسكري، ووضعه رهن تصرفها مع تولي هذه اللجنة عمل صيانة الحصن واستغلاله لأهداف ثقافية وسياحية أساساً. إلا انه ومنذ ابرام الاتفاق وتحقيق تفويت هذه المعلمة الأثرية، لا يزال حال “بستيون” تازة على ما كان عليه منذ قرون. فلا عمل تاهيل ولا مبادرة ترميم ولا شيء يثبت أن هذا الفضاء يوجد على ايقاع تدبير واهتمام جديد. كل ما هناك إهمال لايزال يطاله مع محيطه بأكمله، وباب حديدي تم وضعه لعزله نهائيا عن كل زائر وباحث ومهتم .. وهنا سؤال الجدوى من مبادرة بقدر ما هي بدون اجراءات داعمة للتنمية المحلية، بقدر ما زادت من تعميق تعثرٍ وتأخرٍ حاصلٍ في التنمية المحلية.
الآن بعد كل هذه الأحلام وبعد أربعة عشرة سنة بالتمام والكمال، عن حدث تفويت هذه المعلمة الأثرية السعدية بتازة للَّجنة المغربية للتاريخ العسكري. حصن “البستيون” هذه التحفة شكلا موقعاً وذاكرة توجد وجها لوجه أمام ضرر مهددٍ لأركانها ومكوناتها بسبب بناء ملامس خاص بتجميع المياه هو في طور الانجاز، وهذا البناء الجاري أثار ما أثار حول قانونيته ومدى توفره على ترخيص من قبل جهات مسؤولة منها الثقافة والتعمير والجماعة المحلية، وحول احترامه لقوانين ومساطر التعمير الجاري بها العمل عندما يتعلق الأمر ببناء في مواقع ذات طبيعة أثرية وأركيولوجية. عِلما أن مبنى “البستيون” الأثري هذا مصنف وفق ظهائر ومراسيم منذ فترة الحماية، بل هو من المعالم الأساسية التي ارتكز عليه ملف تصنيف تازة في شقها العتيق كتراث وطني، ملف قطع اشواطاً هامة بتشارك وتعاون وجهود عدد من الفاعلين والشركاء والمعنيين عن مصالح وهيئات ومؤسسات ادارية ووزارية محلياً جهوياً ومركزياً. هذا فضلا عما تحتويه التوجيهات والخطب الملكية السامية حول أهمية حماية التراث والمعالم الأثرية والتحف الوطنية، لِما تعكسه وتحتويه هذه المعالم من هوية ورمزية مغربية وذاكرة أصيلة جماعية.
وقد ارتأت في الختم أمرين أساسيين، أولاً ما ورد حول “بستيون” تازة الشهير من قِبل مؤرخين معاصرين لحدث تشييده، ومنهم أبي فارس عبد العزيز الفشتالي صاحب “مناهل الصفا في مآثر موالينا الشرفا”. وكان قد أشار فيه مؤلفه هذا لِما ميز أعمال السلطان احمد المنصور الذهبي في العمارة الدفاعية، من ضخامة وفخامة ومناعة وحصانة. ولِما افتتح به بداية حكمه من تشييد لحصون قل نضيرها في البلاد، ولِما أحيط به هذا البناء الدفاعي من خيرة أهل المعرفة بالتشييد من عرب وعجم، مؤكداً أن “بستيون” تازة كان بالعناية والشكل والفخامة والمناعة نفسها. وثانياً كون السلطات الفرنسية أثناء فترة الحماية على البلاد، عندما أقدمت على بناء معسكر لها بجوار هذا الحصن وهو المعسكر الشهير محلياً ب”لاكروا”، تركت مسافة حوالي خمسين متراً بين هاذين المكونين، في احترام تام لقيمته التراثية والتاريخية ولمساطر عمل التعمير في أماكن ذات طبيعة أثرية، عِلماً أن حصن “البستيون” هو بموقع غير بعيد عن كيفان بلغماري التي شهدت أولى الدراسات والأبحاث الأركيولوجية خلال فترة الحماية، والتي انتهت الى حقائق علمية هامة تخص تاريخ المنطقة والمغرب القديم، على إثر ما تم العثور عليه من أدلة ورسوم وبقايا مواد وعظام تعود لفترة ما قبل التاريخ، لدرجة الحديث عن قرية انيوليتيكية في المكان.
قليل فقط من كثير متشعب يخص حصن “البستيون”، وهو يئن تحت رحمة ربه ويستغيث لِما هو عليه من هجمة وتبخيس في تحدِّ لقوانين عمل التعمير، ما قد يكون بأثر وخيم وطمسٍ لمَعْلمٍ شاهدٍ على عظمةِ تاريخ مدينةٍ وجبلٍ وسَلفٍ وأجيالٍ ووطنٍ، إن لم يتم إنقاد ما يمكن إنقاذه قبل فوات أوانٍ، ويطوي كل شيءٍ زمن ونِسيانْ وتذوب ذاكرة جَمعٍ وإنسانْ.
*باحث.