أكثر ما كان يخشاه مهندسو “مدينة الرحمة” بإقليم النواصر، قبل تدشينها في 2007، تحولها إلى قاعدة خلفية لأنواع الجريمة، ومعمل يشتغل بطاقة عالية لإنتاج أنواع الظاهر الاجتماعية السلبية، ما وقع بالفعل في أقل من تسع سنوات، ويدفع ثمنه، اليوم، موظفون وأطر ومستخدمون وتجار وثقوا في حلم امتلاك قبر حياة بضواحي “الغول” يقيهم شر الاختناق وشر الازدحام والفــــــــــوضى.
غابة من الإسمنت المتوحش، هو أقرب وصف إلى هذه المدينة العملاقة التي تقترب من تسجيل رقم 300 ألف نسمة، يزدحمون في مجال حضري غير منظم، بطرق ومسالك مغبرة وبعضها مدمر بالكامل وآخر لم تكتمل فيه الأشغال منذ أكثر من خمس سنوات (مقطع الحي الحسني ومقبرة الرحمة)، كأن الأمر يتعلق بـ”سد عال”، وليس مجرد طريق تحترم آدمية البشر وترفأ بسياراتهم.
تواجهك المدينة بالعنف، لسبب غير معروف على وجه التحديد، وتصيبك بالإحباط والضيق، وتعطيك إحساسا أنها ولدت من فراغ، أو نبتت كما اتفق، دون تخطيط، أو حكامة، أو ترشيد يستحضر التفاصيل الصغيرة المفروض أن تتوفر في بناء قطب عمراني يستفيد من تجارب “مدينة عملاقة” مجاورة تدفع، اليوم، أخطاء المخططات الفاشلة.
أريد لمدينة الرحمة أن تجمع ما لا يجمع، وأن تكون حلا لجميع المتناقضات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والديمغرافية التي أنتجتها الدار البيضاء على مدى عقود، فكانت النتيجة خليطا من البشر والعادات والسلوكات، وأنماطا متنافرة من المساكن والإقامات وأشكالا من الفوضى فاضت عن الحاجة، ولا يملك المسؤولون، اليوم، غير الشكوى، بعد استسلامهم إلى الأمر الواقع.
لا تقدم المدينة الجديدة، التي تحتفل السنة المقبلة بعقدها الأول، لسكانها غير الإسمنت والأنماط العشوائية المقنعة، وغير الفراغ القاتل الذي تتردد مجموعات من الجانحين وذوي السوابق والمجرمين في ملئه عربدة وسرقة وهجوما واختطافا واغتصابا وتشويها وسطوا ونشلا واعتداء بالأسلحة البيضاء، واتجارا في أنواع المخدرات والمشروبات الكحولية، وقتلا في بعض الأحيان.
هؤلاء المجرمون من يروج اليوم لصورة مدينة الرحمة التي أضحت مرادفا لقاعدة خلفية للإجرام، تدل عليها محاضر الدرك الملكي والسلطات المحلية والقوات المساعدة، وكلها أجهزة رفعت الراية البيضاء أمام تنامي الظواهر الأمنية السلبية، التي لا يكتفي أصحابها بالاشتغال محليا، بل يصدرون تجاربهم إلى الأحياء المجاورة، انطلاقا من الحي الحسني والألفة ووسط المدينة، ووصولا إلى سيدي البرنوصي وأهل لغلام وعين السبع وعين حرودة.
هذه الحقائق لا تخفيها عناصر من الدرك الملكي، مؤكدين أن عمليات الإجرام بهذه المنطقة واقع لا يمكن لأحد إنكاره، مؤكدين أن المخطط الجديد الذي يتبعه المركز، منذ ثلاثة أشهر، ساهم في التخفيف من حدة الاعتداءات الجسدية والسرقات والمشاجرات الدموية بالسلاح الأبيض والاتجار في أنواع المخدرات.
وقالت المصادر نفسها إنه لا يكاد يمر يوم دون تحرك أو عملية تدخل لوقف متهم، أو مطاردة بائع مخدرات، أو فك نزاع دموي بين الجيران، وهي ظاهرة تتفاقم كثيرا بالمنطقة، حيث مازالت حروب الأحياء والمشاجرات بين سكان المنزل نفسه، أو سكان المنازل المجاورة سيدة الموقف.
ولا يتوفر المركز على أقل من 22 عنصرا يعملون في الليل والنهار لمواجهة حالات الجنوح والجريمة بأنواعها، علما أن عمليات أمنية وصفت بالكبرى أدت قبل أشهر إلى اعتقال 146 مشتبها فيهم من ذوي السوابق وإيداعهم السجن بتهم العود، ومنهم معتقلون يحملون أسماء وألقابا معروفة لدى سكان المنطقة.
في مرحلة لاحقة، أسفرت عمليات التدخل عن اعتقال ومحاكمة 188 شخصا متهمين باقتراف جرائم مختلفة، ضمنهم 18 قاصرا، أربعة منهم فقط يتحدرون من الرحمة، بينما 14 منهم من مناطق مختلفة.
قبل 20 عاما، كانت مدينة الرحمة، التي تستريح على عشرات الهكتارات، عبارة عن أراض فلاحية تحولت مساحات منها إلى مبان وأحياء عشوائية بنيت في غفلة من السلطات المحلية لاستيعاب مئات النازحين من القرى والمدن المجاورة بسبب الفقر والجفاف.
واستمرت عمليات الزحف على الأراضي الفلاحية وتحويلها إلى أكواخ وعشوائيات إلى نهاية التسعينات، إذ استيقظت الدولة على فضيحة عمرانية، كان ينبغي معالجتها بتحويل المنطقة إلى قطب عمراني بضاحية البيضاء، يهدف، أولا إلى إعادة هيكلة عشرات الدواوير القصديرية وإعطاء سكانها الحق في سكن لائق، وثانيا، بتخفيف الضغط عن العاصمة الاقتصادية بفتح فضاء عمراني جديد يستوعب الأسر الجديدة الراغبة في الحصول على سكن.
وانطلق المشروع فعلا في 2007، إذ اقتلعت عشرات الدواوير من المنطقة، سيما بين طريقي مولاي التهامي وطريق آزمور، واستفاد سكانها، وكانوا يعدون بالآلاف، من بقع أرضية معدة للبناء، كما شرعت الآلات في تسوية الأرض استعدادا لبناء مشاريع عمرانية أخرى لتحقيق الانسجام، عبر السماح بانخراط الشركات الخاصة، التي استفادت من تجزئات أقامت عليها سلسلة طويلة من مشاريع السكن الاجتماعي والمتوسط استقطب إليها سكان من مختلف مناطق الدار البيضاء وخارجها.
هذه السرعة القياسية التي انطلقت بها المدينة العملاقة، التي تتسع اليوم لـ300 ألف قاطن، كان لا بد أن يتسبب في حوادث سير مميتة، ما بدأ يظهر من السنوات الأولى لبناء المشروع، مع اتساع الهوة الديمغرافية بين السكان الجدد، وفشل جميع سياسة الاندماج الاجتماعي بين فئات متنافرة، وغياب برامج دائمة للتوعية والتربية المدنية والتربية على المواطنة، ناهيك عن الفراغ الفظيع للمرافق الثقافية والتنشئة وملاعب القرب والجمعيات الجادة ودور الشباب.
هذه الهوة كان “طبيعيا” أن تملأ بعدد من الظواهر السلبية، على رأسها جنوح مجموعات من المراهقين والشباب إلى الإجرام والإدمان على عادة الدخول والخروج من السجون، التي أضحت مثل نياشين وأوسمة معلقة فوق أكتاف البعض، يرهبون بها المواطنين والسلطات الأمنية، بل تكون مصدر فخر واعتداد، أحيانا، وسط أسرهم وجيرانهم، وهو أسوأ ما في الموضوع.